حياته
ولد الإمام أحمد في ربيع الأول من عام 164 هـ في بغداد في خلافة المهدي. ونشأ وتعلم بها يتيماً ترعاه أمه. واختلف إلى الكتّاب، ثم اختلف إلى الديوان وهو ابن أربع عشرة سنة.
وشب أحمد على أدب عظيم، وخلق كريم، ودين عميق. كان جند الخليفة مع الخليفة في الرقة، فكانوا يكتبون رسائلهم إلى نسائهم وبيوتهم، فتبعث النساء إلى المعلم: ابعث إلينا بأحمد بن حنبل ليكتب لنا جواب كتبهم، فيبعثه. فكان يجيء إليهن مطأطئ الرأس، فيكتب جواب كتبهم، فريما أمْلين عليه الشيء من المنكر فلا يكتب لهن.
وقد حدّث المروذي قال: قال لي أبو عفيف –وذكر أبا عبد الله أحمد بن حنبل-: كان في الكتاب معنا وهو غليّم نعرف فضله.
وبدافع الرغبة في العلم أقبل أحمد الطفل الصغير بكل قلبه وجوارحه على العلم والدرس والقراءة، موفور الموهبة،نام المَلَكة، وأخذ يتردد على حلقات العلم في بغداد، وهو موضع الإعجاب من الناس. قال المروذي: قال لي أبو سراج بن خزيمة –وهو ممن كان مع أحمد في الكتّاب-: إن أبي جعل يعجب من أدب أحمد وحسن طريقته. فقال نا ذات يوم: أنا أنفق على أولادي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم، انظر كيف يخرج؟ وجعل يعجب. وكان الهيثم بن جميل يقول عن أحمد: أحسب هذا الفتى –إن عاش- يكون حجة على أهل زمانه.
وشاهد أحمد نهاية خلافة المهدي وسنه خمس سنوات، ثم شاهد نهاية خلافة الهادي وأول خلافة الرشيد وسنه ست سنوات.
حياة أحمد في عصر الرشيد
عاش أحمد في عصر الرشيد يطلب العلم ويحصله، يمضي ليله ونهاره كله في سبيله. قال أحمد: طلبت الحديث في سنة 179 هـ وأنا ابن ست عشرة سنة، وهي أول سنة طلبت الحديث فيها، فجاءنا رجل فقال: مات حماد بن زيد.
شيوخ الإمام أحمد
التقى الإمام أحد رحمه الله بعدد كبير من أئمة عصره، وأخذ عنهم، وحل في طلب العلم، والتقى في رحلاته بالكثير من العلماء. ومن مشايخه الذين سمع منهم ما ذكرهم أحمد بقوله: سمعت من سليمان بن حرب بالبصرة سنة 194 هـ، ومن أبي النعمان عارم في تلك السنة، ومن أبي عمر الحوضي أيضاً، وأتيت مجلس ابن المبارك، وقد قدم علينا سنة 179 هـ، وسمعت من علي بن هاشم بن البريد سنة 179 هـ في أول سنة طلبت الحيدث، ثم عدت إليه في المجلس الآخر وقد مات، وهي السنة التي مات مالك بن أنس. وكان أحمد يقول: أول سماعي من هُشيم. وهؤلاء جميعاً من شيوخه في الحديث، ومن مشايخه أيضاً سفيان بن عيينة وإسماعيل ابن علية.
ومن شيوخه في الحديث كذلك عبد المؤمن العبسي، وسمع منه سنة 182 هـ. ومنهم عبد الرحمن بن مهدي، وأبو بكر بن عياش.
قال أحمد: قدم عبد الرحمن بن مهدي بغداد سنة 180 هـ، وهو ابن خمس وأربعين، وكنت أراه في المسجد الجامع، فأتيناه ولزمناه، وكتبنا عنه ها هنا.
ومن حدث عنه أحمد من النساء أم عمر بنت حسان بن زيد الثقفي.
رحلاته في طلب العلم
لقد رحل الإمام أحمد كثيراً في طلب العلم، فرحل إلى اليمن والتقى بعبد الرزاق وأخذ عنه، ورحل إلى مكة وإلى البصرة وإلى الري. قال أحمد: كنا عند عبد الرزاق في اليمن، فجاءنا موت سفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد سنة 198 هـ.
وممن التقى بهم في الري عليّ بن مجاهد حيث رحل أحمد إليه عام 182 هـ، وهي أول سنة رحل فيها في طلب العلم، وسمع من جرير بن عبد الحميد في الري.
ورحل إلى البصرة عام 186هـ في طلب الحديث، وسمع من سفيان بن عيينة عام 187 هـ، وفي هذا العام أدى فريضة الحج، وخرج إلى الكوفة في طلب الحديث فأصابته حمى فعاد إلى بغداد.
وقال أحمد: دخلت عبدان سنة 186 هـ.
ويقول أحمد أيضاً: دخلت البصرة خمس دخلات، وذلك ليسمع من محدثيها، وكذلك رحل إلى الحجاز خمس مرات. وشاهد فيضان دجلة الكبير عام 186 هـ في أيام الرشيد الذي اضطر الرشيد بسببه إلى النزول بأهله وحرمه وأمواله إلى السفن. ومنع السندي بن شاهك والي بغداد الناس من العبور إشفاقاً عليهم، فأقام أحمد بن حنبل لا يستطيع الرحلة من أجل العلم.
لقياه بالشافعي
من أبرز الشخصيات التي التقى بها الإمام أحمد أثناء رحلاته، وأثناء إقامته أيضاً الإمام الشافعي، رحمه الله، وقد أخذ عنه واستفاد منه كثيراً، وكان الشافعي يجلّه ويقدره.
ففي عام 187 هـ رحل أحمد إلى الحجاز، والتقى مع الشافعي، وأخذ منه فقهه وأصوله، وبيانه لناسخ القرآن ومنسوخه، كما أخذ من سفيان بن عيينة الحديث.
ولما قدم الشافعي بغداد عام 195 هـ التقى أحمد به كذلك، وكان الشافعي يعوّل عليه في معرفة صحة الحديث أحياناً. وكان أحمد يجلّ الشافعي ويقول فيه: يُرى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: »إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة رجلاً يقيم لها أمر دينها«، فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المئة، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المئة، أي: الثانية.
ورشحه الشافعي عند الرشيد لقضاء اليمن فأبى أحمد وقال له: جئتُ إليك لأقتبس منك العلم، تأمرني أن أدخل لهم في القضاء! وكان ذلك في آخر أيام الرشيد. ورشح الشافعيُّ الإمام ثانية لقضاء اليمن عند الأمين العباسي فأبى أحمد، وكان ذلك عام 195 هـ.
وقد عقد الحافظ ابن الجوزي الباب الخامس من مناقب الإمام أحمد في تسمية من لقي من كبار العلماء وروى عنهم وذكرهم على الحروف.
اهتمامه وحرصه على طلب العلم
لقد ظهر اهتمام الإمام أحمد وحرصه على طلب العلم منذ الصغر، فلم يكن –رحمه الله- يترك فرصة تمر دون استفادة، وكان شغوفاً بالعلم، شاغلاً وقته كله في طلب الحديث، فكان مثار عجب الناس.
قال بعضُ العلماء: مرّ أحمد بن حنبل عليناً قادماً من الكوفة، وبيده خريطة فيها كتب، فأخذتُ بيده، فقلت: مرة إلى الكوفة، ومرة إلى البصر، إلى متى؟ إذا كتب الرجلُ ثلاثين ألف حديث لم يكفه؟ فسكت أحمد، ثم قلت: ستين ألف؟ فسكتَ. فقلت: مئة ألف؟ فقال: حينئذ يعرف شيئاً. فنظرنا فإذا أحمد قد كتب ثلاث مئة ألف حديث.
وهكذا قضى وقته وأيامه في عصر الرشيد في طلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: فاتَني مالك، فأخلف اللهُ عليّ سفيانَ ين عيينة، وفاتني حماد بن زيد فأخلف الله عليّ إسماعل ابن علية.
ويقول أحمد: كنت ربما أردتُ البكور في طلب الحديث، فتأخذ أمي بثيابي وتقول: حتى يؤذّن الناس.
وأحبَّ أحمدُ العلمَ والكتابة محبة شديدة حتى قبل: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين، فقال: مع المحبرة إلى المقبرة. وكان يقول: أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر.
وفي مكة سُرِق متاعه وهو خارج البيت يطلب الحديث، ولما عاد قيل له ذلك، فلم يسأل عن شيء من المتاع،وإنما بادر بالسؤال عن الألواح التي كتب فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يطمئن إلا بعد أن وجدها.
وكان عبد الله بن الإمام أحمد يقول: خرج أبي إلى طرسوس ماشياً، وخرج إلى اليمن ماشياً.
ولأمانة أحمد رحمه الله وصدق روايته في الحديث كان يمزّق الأحاديث التي يكتبها عن الضعفاء في الرواية. كل هذا وهو على سمته من الزهد، وشأنه من الفقر، حتى كان يقول: ما أعدِل بالفقر شيئاً. لقد شُغل بالعلم، فلم يتزوج إلا بعد الأربعين.
جلوسه للفتوى والحديث
لقد كان الإمام أحمد يتحرج ن الفتوى حتى تمكن من علمه، ووثق من اطلاعه، واجتمع لديه ثروة كبيرة من نصوص السنة، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم.
ولم يجلس أحمد للحديث والفتوى إلا بعد أن بلغ سن الأربعين، وذلك عام (204 هـ). ويحكى في ذلك أن بعض العلماء جاء إليه في بغداد عام (203 هـ) يطلب الحديث، فأبى أن يحدّثه، فذهب، ثم عاد إليه عام (204 هـ) فوجد أحمد قد حدّث، واستوى الناس عليه.
وروي أنه رئي في مسجد الخيف سنة (198 هـ)، وجاءه أصحاب الحديث، فجعل يعلمهم الفقه والحديث، ويفتي الناس في المناسك. ولعل ذلك محمول على الضرورة وعدم وجود غيره ممن يقوم مقامه، أو على أنه سُئل فأجاب، خروجاً من إثم كتمان العلم.
من روى عنه الحديث والعلم
ولما اشتهر الإمام بالعلم، وتمكن منه، وعرف فضله فيه، أخذ عنه الناسُ الحديث، وتتلمذوا عليه،وقد روى عنه الحديث خلق كثير، منهم عدد من مشايخه من مثل: عبد الرزاق بن همّام الصنعاني، وإسماعيل ابن عُلية، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن إدريس الشافعي، ومعروف الكرخي، وعلي ابن المديني، وغيرهم الكثير.
وقد حدّث عنه من الشيوخ والأصحاب على الإطلاق عدد كثير أيضاً، ذكرهم ابن الجوزي في »المناقب« ورتبهم على الحروف، منهم: أبناؤه وأبناء أبنائه، ومن مثل: إبراهيم بن أبان الموصلي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، والجُنيد الصوفي، والحسن بن أحمد الإسفراييني، والحسن بن الهيثم البزار، وسليمان بن الأشعب أبو داود السجستاني، وعثمان الموصلي، والقاسم بن الحارث المروزي. ومنهم أيضاً: البخاري، والترمذي، وإسحاق بن راهويه، وأبو بكر الطبراني.
وممن روى عنه من النساء: حُسن جاريتُه، وخديجة أم محمد، وريحانة بنت عم أحمد وزوجته أم عبد الله، وعباسة بنت الفضل زوج أحمد وأم ابنه صالح، ومخة أخت بشر الحافي.
وأخيراً، فقد شاهد أحمد نهاية عصر الرشيد (193هـ)، وعصر الأمين (198هـ)، وجزءاً من عهد المأمون، قبل أن يذهب هذا الخليفة العباسي إلى ما ذهب إليه من القول بخلق القرآن.
وهو في كل ذلك يعلو مكانة في العلم والحديث والفتيا، وفي الزهد والتواضع والرفعة. ومضت الأيام بالإمام، وجاء عام 212 هـ يحمل جديداً من سياسة المأمون حيث جهر بالقول بخلق القرآن اتباعاً للمعتزلة. وكان أبو الهذيل العلاف المعتزلي أستاذاً للمأمون، وهو الذي غرس في نفسه حب المعتزلة، والتشيع لآرائهم، وسنفصل الكلام في ذلك، وفي المحنة التي مني بها الإمام أحمد بسبب موقفه الصلب في الدفاع عن العقيدة، عليه رحمة الله وبركاته.