جزاء المؤمنين الصادقين
--------------------------------------------------------------------------------
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: “وَالذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ لاَ نُكَلفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم منْ غِل تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبنَا بِالْحَق وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” (الآيتان: 42 43).
بعد أن تحدث الحق سبحانه في الآيات السابقة على هاتين الآيتين عن المكذبين والمعاندين الذين تحيط بهم نار جهنم من فوقهم ومن تحتهم أعقب ذلك بما أعده سبحانه للمؤمنين من نعيم ويسر فقال: “وَالذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ...”.
أي: والذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعملوا الأعمال الصالحة التي لا عسر فيها ولا مشقة، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، أولئك الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، هم أصحاب الجنة.
صفاء نفسي
ثم بيّن سبحانه ما هم عليه في الجنة من صفاء نفسي ونقاء قلبي فقال تعالى “وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم منْ غِل تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ” أي: قلعنا ما في قلوبهم من تحاقد وعداوات في الدنيا، فهم يدخلون الجنة بقلوب سليمة زاخرة بالتواد والتعاطف حالة كونهم تجري من تحتهم الأنهار فيرونها وهم من غرفات قصورهم فيزداد سرورهم.
ومعنى قوله عز وجل: “وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ” أي قالوا شاكرين لله أنعمه ومننه: الحمد لله الذي هدانا في الدنيا إلى الإيمان والعمل الصالح، وأعطانا في الآخرة هذا النعيم الجزيل، وما كنا لنهتدي إلى ما نحن فيه من نعيم لولا أن هدانا الله إليه بفضله وتوفيقه.
وقوله عز وجل: “قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبنَا بِالْحَق” أي: ولقد جاءت رسل ربنا في الدنيا بالحق لأن ما أخبرونا به قد وجدنا مصداقه في الآخرة.
“وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” أي ونودوا من قبل الخالق عز وجل بأن قيل لهم: تلكم هي الجنة التي كانت الرسل تعدكم بها في الدنيا قد أورثكم الله إياها بسبب ما قدمتموه من عمل صالح.
العمل الصالح
فالآية الكريمة كما يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي صريحة في أن الجنة قد ظفر بها المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة.. فإن قيل: إن هناك أحاديث صحيحة تصرح بأن دخول الجنة ليس بالعمل وإنما بفضل الله، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لن يدخل أحدا عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته”. فإن الجواب على ذلك كما يقول الدكتور طنطاوي: أنه لا تنافي في الحقيقة بين ما تخبرنا به الآية الكريمة وما يرشدنا إليه الحديث النبوي الصحيح، لأن المراد أن العمل لا يوجب دخول الجنة، بل الدخول بمحض فضل الله، والعمل سبب عادي ظاهري، وتوضيحه أن الأعمال مهما عظمت فهي ثمن ضئيل بالنسبة لعظمة دخول الجنة، فإن النعيم الأخروي سلعة غالية جدا فمثل هذه المقابلة كمثل من يبيع قصورا شاهقة وضياعا واسعة بدرهم واحد. فإقبال البائع على هذه المبادلة ليس للمساواة بين العمل ونعمة الجنة، بل لتفضله على المشتري ورحمته به، فمن رحمته بعباده المؤمنين أن جعل بعض أعمالهم الفانية وأموالهم الزائلة ثمنا لنعيم لا يبلى، ولذلك قال ابن عباس عندما قرأ قوله تعالى: “إِن اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَن لَهُمُ الجَنةَ”: نعمت الصفقة، أنفس هو خالقها، وأموال هو رازقها ثم يمنحنا عليها الجنة.
إنه سبحانه هو المتفضل في الحقيقة بالثمن والمثمن جميعا.. فدخول الجنة بفضله سبحانه، وهو الموفق للعمل والمعين عليه.
ويقول بعض العلماء في الربط بين الآية الكريمة والحديث الصحيح: إن الفوز بالجنة إنما هو بفضل الله والعمل جميعاً، فيقول سبحانه: “وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” أي من فضل الله تعالى، وإنما لم يذكر ذلك لئلا يتكلوا، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لن يدخل أحدا عمله الجنة..” أي مجردا من فضل الله، وإنما اقتصر على هذا لئلا يغتروا.