حينما تبوح الصحراء ببعض أسرارها ربما سيكون أول أسئلتها عمّن ظن أنه أحالها إلى «أرشيف» التاريخ في حين هي تستعد لبناء المستقبل. ربما تقول الصحراء بعض حكايتها، وربما تشكو من قلة السامعين في زمن لاهث لم يعد فيه للحديث «المليح» ملح. سائلون كثر يسألون وتسأل الصحراء.. كيف لا ننصت لهمسها وهي ما انفكت تروي على مسامع الزمان قصة الإنسان ومعجزته فوق رمال بلادي. لم يعد مهمًّا كيف ومتى حاورت الصحراء أبناءها، في زمن عزّ فيه الحوار، وخطف هدوءه أزيز «الجوال»، وضجيج «الدردشة» الإلكترونية!
ما إن تتحدّث الصحراء حتى تسترسل في رواية قصة استجابة الجبل لدعوتها للقاء العظماء، وكما يروي السامعون القلّة.. ليلتئذ سكت السامرون وتكلّم الجبل عن الصحراء ومعها كما لم يكن الكلام!
كثيرون لا يعرفون سر كيمياء هذا اللقاء الذي تنادى له الجبل، وموجات البحر في حضرة الصحراء.. فسجّلت رمالها شهادتها الكبرى على عصر قيل عنه وفيه كل شيء. في تلك الليلة الباذخة، كما تستذكر الصحراء، كانت احتفالية مهيبة لقراءة «وثيقة الأرض» التي شهدها الجبل والبحر، وحفظتها الصحراء وديعة نفيسة تدخرها للزمن الجميل.
هل كانت الصحراء تشكو حالها، أم أنها كانت تشخّص واقع حالنا؟ ربما، ففي بلادي يحب الناس بجنون ولكنهم لا يتحدّثون عن فضيلة المحبّة، ويتكلم الناس في بلادي أعذب الكلام وهم يفترشون الرمال ولكنهم لا يناغون الصحراء. وأكثر من هذا في بلادي، بعيدًا عن غابات الإسمنت وأبراج الكهرباء، يرى الناس الناس، فقط، على رمال الصحراء، ولكنهم يضنّون عليها بواجب التحية والسلام. هل كبرت الصحراء حين صغروا فلم يروها؟! عجيب أمرها وأمرنا. كيف لا نراها مع أن الجغرافيين يقولون إن لدينا أكبر مكوّن رملي في العالم؟! ويقول رواة التاريخ إن صحراءنا من بين كل مساحات الرمال ظلت وفيّة تحنو على إنسانها بكل ود. وحتى بعد أن أنسينا وجهها في زحمة الإسفلت والعشب الصناعي.. لم تتخل هي عنا. فقد أخرجت من جوفها مع أسرار الماضين كنز الكنوز حياة للباقين ومستقبلاً للاحقين.. نعم فمن ثراها السخي خرج السلاح السري الأمضى «طارد الفقر»، وجالب «الحياة والرخاء» ليتقاطر علينا ذهبًا أسود يسر الناظرين.
لا بأس، فربما نصحو ذات ضمير ونسأل، إن ملكنا ناصية السؤال، عمّن طمس لون الصحراء من دفاتر أطفالنا، وقد نتساءل حينها كيف سُرِق منّا حلم الرمال.. وكيف ضاعت من ذاكرتنا صور القوافل العائدة مع الأصيل؟
وعلى بوابة الأسئلة أيضًا قد نجد من يقول إننا تواطأنا على وأد روح الصحراء خشية من حرّاس نادي العولمة. ألم نستبدل بقصص «الخيل والهيل» مرويات «دزني» و«سوبرمان»؟ ألم نستعض عن قمر الصحراء بأضواء النيون فلم نعد نذكر متى رأينا سماءنا لآخر مرة؟!
هل حقًا تمالأنا على دفن روائع «صبا نجد» تحت مربعات «السيراميك» وقوالب «الرخام» البارد؟ ما سبب كل هذه الجفوة: أهي قسوة الإسمنت أم جفاف روح الإنسان في ضوضاء المادة؟ ترى من يجيب الصحراء التي أنكرت وجهها ويدها ولسانها وسط جلبة روادها من «الخبراء» «الحمر»، والمهندسين «الصفر».. ورعاة الجمال «الغرباء» الذين لا يروون الشعر، ولا يطربون لصوت الربابة ودندنة «المهباج» ورائحة السمر وهي تعطّر ليل السمار.
على صفحات الرمال نُقِشت وستنقش روايات إنسان الرمل، وأمنيات حوريات الفياض الندية.. ستظل هذه القصص تضوع في فضاء الصحراء خزامى طهر ونقاء. هنا وهناك على جنبات الصحراء ملاحم حفظتها حبات الرمل، وكتبها العاشقون في سفر الإنسان الذي مرّ يومًا من هنا.. وهو ذات الإنسان الذي تصفه الصحراء بأنه مخلوق نادر أحب الأرض فكافأته بطيباتها.. نعم ستظل تتردد هذه القصص على شفاه الصامتين، وهي قصص لن تشاهدها على «فضائية» لا تجيد إلا صناعة الفوضى في فضاء العبث.. ولا عجب فحكايات الصحراء عميقة عمق الأرض.. استمدت من شراكة الجبل رسوخ الشامخين واستلهمت من روح بحرها إيثار الباذلين. هنا فلتقف القامات مهما علت، فقصص الصحراء والجبل والبحر لم يكتبها هواة ولم تدونها كتابات مستشرقين.. فقد طبعتها أخفاف «المطايا» ذات زمن لن يطوي التاريخ صفحاته.