ظَهرت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إِلى الإِسلامِ الذي لم تَكتفِ تعاليمُه بتنظيمِ العلاقة بين الخالق والمخلوق، وإِنما شَمِلت جميع نواحي الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، وقد أبْقَى على الفضائل العربيةِ الحَسَنةِ، ودَعَمها في حين حارب مظاهرَ السلوكِ السَّيئةَ الأخرى.
ويتضحُ ذلك من قولِ الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعِثت، لأتمم مكارمَ الأخلاق" مما يَدل على أنه كان للعرب أَخلاقٌ وصفاتٌ محمودة، أَبْقى الإِسلامُ عليها، ودَعَا إِلى التمسك بها. وإذا نَظرنا إِلى التشريع الإسلامِيّ نجدُه أَكثرَ الأديان السماوية تنظيماً لجميع نواحي الحياة، ولا سِيَّما النواحي الاجتماعية منها، فقد شَمِلت تعاليمهُ تنظيمَ علاقةِ الإِنسان(1)
بربه من جهة وعَلاقةِ الإنسان بأخيه من جهةٍ أخرى. وليس المجال هنا مجال دراسةِ التشريعاتِ الإسلامية، وإنما المقصودُ إيضاحُ نظرةِ الإسلامِ إلى التعاون، فقد اهتم الإسلامُ بنشرِ الروح التعاونية وتأكيدِها بين المسلمين، فأمر اللهُ سبحانه وتعالى بالتعاون في قوله(2) : {وتَعاوَنوا على البرّ والتقوى}، والمقصودُ بالتعاون هنا ما يُحققُ جميع الأعمال المشتركة التي تحققُ مَصلحةَ الفرد وخَيْرَ المجتمع على حَدّ سواء، وقد جاء التعبيرُ عنه بصيغةِ الأمر وذلك يَعني أن التعاونَ واجب على المسلمين.
وقال رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم: "مَثَل المؤمِنينَ في تَوادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمثل الجَسَدِ الواحد، إذا اشْتكَى منه عُضْوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسَّهر والحُمَّى". وتشبيهُ المؤمنين بالجَسدِ الواحد يَدل على عُمقِ الفهم التعاونيِّ في هذا الحديث، وهو تأكيدٌ بأن الفرد عُضو في المجتمع الإسلامي يحسُّ بأحاسيس الآخرين، ويَتأثرُ بمشاعرهم، ويَعمل لمصلحتهم.
وجاءَ في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تؤمنوا حتى تحابُّوا"(4). وفي هذا الحديثِ دليلٌ على تـأكيدِ المشاعر الأَخوية بين المسلمين، إذ أن مَحبَّةَ الخَير للآخرين، والحرصَ على مصلحتهم مَبـدأٌ تعاونيّ أساسيٌّ في التشريع والتربية الإِسلامية.
وليس من السهل أن يُحَقِّقَ كل فردٍ رَغباتِه ومطامعَه وأمانيه، من غَيرِ أن تقفَ بعضُ العقباتِ والصِّعاب في طريقه.
ولهذا لا بدَّ من أن يتعاونَ الإِنسانُ مع غـيره فَيَلتقِيَ تفكيرُه مع تفكيرِ غَيره، وتَلتقيَ قوَّتُه مع قوةِ غيره، فإِذا بهذه العَقباتِ والصعاب أَمامَ قوةٍ أَكبرَ، وفِكرٍ أَقوى، وعقلٍ أرجحَ، فلابد لهذه العقبات أَن تتبدَّدَ، ولابد لهذه الصعاب أَن تزولَ وتخْتفي، وعندئذ تَتحققُ رغباته ومطامحهُ وآمالهُ.
وقد قيل: " اليَدُ الواحدةُ لا تُصَفِّقُ " أما الجماعاتُ المتعاونةُ فتستطيعُ أن تُصَفقَ، وتصفقَ من غَيْرِ انقطاع، ولهذا قيل أيضاً: المرءُ قليلٌ بنفسهِ كثيرٌ بإخوانِه الذين يَشُدُّونَ ازرَهُ، ويَحمون ظَهرَه، فيقوَى بهم، فمصدَرُ هذه القوةِ إنما هو التَّضامنُ والتعاونُ الذي يَجمعُ بين الناس في الرأي والعَمَل.
ومُجتمعُ الحيوانِ نفسِه أدرك بغرائزه(5) قِيمةَ التعاون في الحياة، فتَعاونَ النملُ في أسرابِه، وتعاونت الفِيَلَةُ في غاباتِها، فحَقَّقت لمجتمعها الخيرَ الكثير.
هل رأيتَ النمل كيف يعيشُ جماعاتٍ متعاونة يتوزَّعُ العملُ بينها ويعيشُ كلُّ فردٍ منها لحماية المجموعِ وسعادته، ويَعملُ الجميعُ لحمايةِ الفردِ كما يَعملُ الفردُ لراحةِ المجموعِ وحمايته.
إن النمل يَسْهَرُ على تربية صغاره، ويُعلِنُ الحرب، ويَعقِدُ الصلح مع الفصائل الأخرى من نَوعه، ويسْهرُ على مصالح الجماعة وحِراستها، وحين يَشعرُ النملُ الْعاملُ بخطر، يَحمل على أكتافه المرضى والعَجَزَةَ والصِّغارَ وبعضَ ما كان قد ادَّخره من قُوت، وإِذا عَجزت نملةٌ عن السَّهر حَمَلَتْها أخرى، وإذا جُرحت نملةٌ هَبَّت لمساعَدتِها نملة أخرى، وهكذا.
والحَيواناتُ في الغابة، أدركت بغَريزتِها فضلَ التعاون، فالفيِلةُ عندما تَذْهَبُ لتشربَ يَخرُج قائدُها، مُتجهاً نحو مَصدرِ المياه، حتى لا يَكادُ يُسْمَعُ دَبيبُ أقدامه على الأرض، ثم يَقترب من الماءَ، وهناك يَقِفُ بعضَ الوقت ليَسمعَ الأصوات، ثم تَقِف بعضُ الفيَلة في مكانٍ خاصّ للمراقبة والحراسة، ثم يعود إِلى الغابة ويَجمعُ بَقِيَّة القطيع، ليذهبَ به إلى مَورِد الماءِ، وبعد أَن يَشرب القطيعُ يأتي دَوْرُ الحُرَّاسِ فترد الماءَ فُرادى، وكلما شَرِب أَحدُها عاد إلى مكانه في الحراسة، وأخيراً يَنزِلُ قائدُها الماءَ، ليَأخُذَ نصيبَه منه، ثم يَلْحَقَ بالقطيع، وإِذا حَدث ما يَدعو الفِيَلَةَ إلى الفِرار، وُضِع كل صغيرٍ من الفِيَلةِ بين فِيَلين كبيرين، يَدفَعانه بينهما في أَثناء الفِرار.
وإذا وطئ(6) عالمَ الحيوانِ في الغابة مخلوقٌ يُخشَى شَره، فلهذا الحيوانِ أَساليبُه الخاصةُ في تبادلِ الإنذار والتحذيرِ والتنبيِه بقدوم هذا الغريب في الغابة، وربما كان الغرابُ أوَّلَ مَن يرى هذا الخطرَ القادم، فيَصيحُ. منذراً(7) مُحذِّراً، فلا تَلبثُ الطيورُ والسناجيب أَن تَحذُوَ حَذْوَهُ، وتنقلَ هذا الإنذارَ إلى كلِّ مكان، أما أنثى البط البري فتُرسِلُ نَذيرَها بالخطرِ إلى قَومِها بإرسال صَوتٍ أجَشّ(
ثم تَنطلِق مُسرعةَ في الفضاء.
هذه صُورةٌ تنطق بما للتعاونِ من آثارٍ ومزايا في مُجتمع الحيوان الأعجم، وفي حياةِ الغابةِ نَفسِها. فما بالُنا إذَنْ بالمزايا والنتائج التي يُحَقِّقُها الإنسانُ نفسُه، صاحبُ العقلِ الراجح، والفكر الناضج، لو تَعاونَ مع أخيـه الإنسانِ في شَتى المجتَمعات؟
تستطيعُ الأسرةُ بالتعاون أن تحققَ لأفرادها الراحةَ والهَناءة، والطمأنينة والسعادة.
وتستطيعُ الدولُ العربيةُ والإسلامية بالتعاون أن تَحظَى بمكانةٍ يَخافُها الأعداءُ ويَحرصُ على صَداقتِها الأصدقاء.
وتستطيعُ دولُ العالم بالتعاون الصادقِ في هَيئةِ الأمم أن تُقِيمَ العدل، وتُحقق السلام، فيَحل الوفاءُ مَحَل الشِّقاقِ والخصام بين شعوبِ العالم.