الإمام أبو حنيفة النعمان
لم يختلف الناس على رجل كما اختلف آراؤهم في أبي حنيفة النعمان .. تغالي البعض في تقديره حتى زعم أنه أوتى الحكمة كلها، وأنه يتلقى علمه عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يشبه الرؤيا أو الرؤية! واشتط الآخرون في كراهيته، حتى لقد اتهموه بالمروق عن الدين، وبالإلحاد والزندقة، وباستيراد المبادئ الهدامة من الديانات الوثنية ومن عباد النار .. وأعمى العداء آخرين، فأذاعوا عنه أنه مجوسي مدسوس على الإسلام ليحدث خرقا في الإسلام!! كان هذا التطرف في الأحكام المتناقضة هو طابع العصر الذي عاش فيه أبو حنيفة، وهو في الوقت نفسه نتيجة سلوك الشيخ وسيرته واقتحاماته الفكرية الجسور.
ذلك أنه كان يدعو إلي الأخذ بالرأي لا يبالي في رأيه بأحد .. فقد كان عارفا بأحوال الحياة، مستوعبا كل ثقافة من سبقوه ومن عاصروه، خبيرا بالرجال، شديدا على أهل الباطل، مرير السخرية بالمزيفين، لاذعا مع المنافقين من متعاطي الفقه والعلم والثقافة في عصره .. وهو عصر غريب حقا .. عصر ملئ بالتطرفات .. هو ذلك العصر الباهر من الفتوحات والثراء الفكري .. عصر الأئمة العظام: محمد الباقر وزيد بن علي وجعفر الصادق ومالك بن أنس والليث بن سعد .. وهو في الوقت نفسه عصر الصعاليك الكبار، والمنافقين والمزيفين..!! عصر عامر بالبطولات والأحلام والخطر والغنى الروحي والاقتحام والمتاع..!! عصر يدوي على الرغم من كل شيء بأصداء المأساة، تفعمه الأحزان، ملتهب بالأشواق إلي العدل وبالحنين إلي الرحمة والصدق والإحسان وبالشجن! .. في ذلك العصر ولد أبو حنيفة النعمان بالكوفة سنة 80 هـ من أسرة فارسية، وسمي النعمان تيمنا بأحد ملوك الفرس ..
من أجل ذلك كبر على المتعصبين العرب أن يبرز فيهم فقيه غير عربي الأصل .. حاول بعض محبيه أن يفتعل له نسبا عربيا .. ولكنه كان لا يحفل بهذا كله فقد كان يعرف أن الإسلام قد سوى بين الجميع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم احتضن سلمان الفارسي وبلالا الحبشي، وكانا من خيرة الصحابة حتى لقد كان الرسول يقول "سلمان منا أهل البيت" وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عن بلال: "سيدنا بلال". ولقد شهد أبو حنيفة في طفولته فظائع الحجاج والي العراق وبطشه بكل من يعارض الأمويين حتى الفقهاء الأجلاء، فدخل في نفسه منذ صباه عزوف عن الأمويين واستنكار لاستبدادهم، ورفض للطغيان .. ثم أنه ورث عن أبيه وأمه حبا لآل البيت فما كان في ذلك العصر رجال ينبذون التفرقة بين المسلمين العرب وغير العرب إلا آل البيت.
وقد تمكن حب آل البيت من قلبه عندما تعرف على أئمتهم وتلقى عنهم، وعندما عاين أشكال الاضطهاد التي يكابدونها في كل نهار وليل! .. حتى لقد شاهد الإمام الصادق واقفا يستمع إليه وهو يفتي في المدينة فوقف قائلا: "يا ابن رسول الله، لا يراني الله جالسا وأنت واقف". وكان أبوه تاجرا كبيرا فعمل معه وهو صبي، وأخذ يختلف إلي السوق ويحاور التجار الكبار ليتعلم أصول التجارة وأسرارها، حتى لفت نظر أحد الفقهاء فنصحه أن يختلف إلي العلماء فقال أبو حنيفة: "إني قليل الاختلاف إليهم" فقال له الفقيه الكبير: "عليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء فإني أرى فيك يقظة وفطنة". ومنذ ذلك اليوم وهب الفتى نفسه للعلم، واتصل بالعلماء ولم تنقطع تلك الصلة حتى آخر يوم في حياته .. ولكم عانى وعانى منه الآخرون في هذا الميدان الجديد الذي استنفر كل مواهبه وذكائه وبراعته!!
وانطلق الفتى الأسمر الطويل النحيل بحلة فاخرة، يسبقه عطره، ويدفعه الظمأ إلي المعرفة، يرتاد حلقات العلماء في مسجد الكوفة .. وكأن بعضها يتدارس أصول العقائد (علم الكلام)، وبعضها للأحاديث النبوية، وبعضها للفقه وأكثرها للقرآن الكريم .. ثم مضى ينشد العلم في حلقات البصرة. وبهرته حلقة علماء الكلام، لما كان يثور فيها من جدل مستعر يرضي فتوته. ولزم أهل الكلام زمنا ثم عدل عنهم إلي الحلقات الأخرى .. فقد اكتشف عندما نضج أن السلف كانوا أعلم بأصول العقائد ولم يجادلوا فيها، فلا خير في هذا الجدل. ومن الخير أن يهتم بالتفقه في القرآن الكريم والحديث. وانتهت به رحلاته بين البصرة والكوفة إلي العودة إلي موطنه بالكوفة، وإلي الاستقرار في حلقات الفقه، لمواجهة الأقضية الحديثة التي استحدثت في عصره، ولدراسة طرائق استنباط الأحكام.
وكان أبوه قد مات، وترك له بالكوفة متجرا كبيرا للحرير يدر عليه ربحا ضخما، فرأى أبو حنيفة أن يشرك معه تاجرا آخر، ليكون لديه من الوقت ما يكفي لطلب العلم وللتفقه في الدين ولإعمال الفكر في استنباط الأحكام .. ودرس على عدة شيوخ في مسجد الكوفة ثم استقر عند شيخ واحد فلزمه .. حتى إذا ما ألم بالشيخ ما جعله يغيب عن الكوفة، نصب أبا حنيفة شيخا على الحلقة حتى يعود .. وكانت نفس أبي حنيفة تنازعه أن يستقل هو بحلقة، ولكنه عندما جلس مكان أستاذه سئل في مسائل لم تعرض له من قبل، فأجاب عليها وكانت ستين مسألة. وعندما عاد شيخه عرض عليه الإجابات، فوافقه على أربعين، وخالفه في عشرين .. فأقسم أبو حنيفة ألا يفارق شيخه حتى يموت.
*******************************************
التوقيع