* * *
)ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً) (الكهف:12)
قوله تعالى: {)ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } وذلك بإيقاظهم من النوم. وسمى الله الاستيقاظ من النوم بعثاً لأن النوم وفاةٌ، قال تعالى: )وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60) وقال تعالى: )اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الزمر42) فالنوم وفاة.
وقوله: { بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ }، قد يقع فيه إشكال؟ هو: هل الله عز وجل لا يعلم قبل ذلك؟
الجواب: لا، واعلم أن هذه العبارة يراد بها شيئان:
1 - علم رؤية وظهور ومشاهدة، أي لنرى، ومعلوم أن علم ما سيكون ليس كعلم ما كان؛ لأن علم الله عز وجل بالشيء قبل وقوعه علمٌ بأنه سيقع، ولكن بعد وقوعه علمٌ بأنه وقع.
2 - أن العلم الذي يترتب عليه الجزاء هو المراد، أي لنعلم علماً يترتب عليه الجزاء وذلك كقوله تعالى: )وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)(محمد: الآية31) . قبل أن يبتلينا قد علم من هو المطيع ومن هو العاصي، ولكن هذا لا يترتب عليه لا الجزاء ولا الثواب، فصار المعنى لنعلم علم ظهور ومشاهدة وليس علم الظهور والمشاهدة كعلم ما سيكون، والثاني علماً يترتب عليه الجزاء.
أما تحقق وقوع المعلوم بالنسبة لله فلا فرق بين ما علم أنه يقع وما علم أنه وقع، كلٌّ سواء، وأما بالنسبة لنا صحيح أنَّا نعلم ما سيقع في خبر الصادق لكن ليس علمنا بذلك كعلمنا به إذا شاهدناه بأعيننا، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: "ليس الخبر كالمعاينة"[4] .
( أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ) قوله: { الْحِزْبَيْنِ } يعني الطائفتين.
وقوله: { أَحْصَى } يعني أبلغ إحصاءً، وليست فعلاً ماضياً بل اسم تفضيل فصار المعنى: أي الحزبين أضبط لما لبثوا أمداً، أي: المدة التي لبثوها؛ لأنهم تنازعوا أمرهم فقالوا: (لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ )(الكهف: الآية19)وقال آخرون) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُم)(الكهف: الآية19). ثم الناس من بعدهم اختلفوا كم لبثوا.
***
)نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف:13)
نِعمَ القائل صدقاً وعلماً وبياناً وإيضاحاً؛ لأن كلام الله تبارك وتعالى متضمن للعلم والصدق والفصاحة والإرادة، أربعة أشياء. كلامه عز وجل عن علم وكلامه أيضاً عن صدق، وكلامه في غاية الفصاحة وإرادته في هذا الكلام خير إرادة، يريد بما يتكلم به أن يهدي عباده.
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ) قصُّ الله عز وجل أكمل القصص وأحسن القصص؛ لأنه صادر عن:
1 -علم.
2 -عن صدق.
3 -صادر بأفصح عبارة وأبينها وأوضحها ولا كلامَ أوضح من كلام الله ، إلاَّ من أضل الله قلبه وقال: هذا أساطير الأولين.
4 -وبأحسن إرادة لم يرد الله تعالى بما يقص علينا أن نضل ولا بما حكم علينا أن نجور، بل أراد أن نهتدي ونقوم بالعدل.
وقوله: { )نَحْنُ } إذا قال قائل أليس الله واحداً؟
فالجواب: نعم واحد لا شك، لكن لا شك أنه جلَّ وعلا أعظم العظماء، والأسلوب العربي إذا أسند الواحدُ إلى نفسه صيغة الجمع فهو يعني أنه عظيم، ومعلوم أنه لا أحد أعظم من الله تعالى؛ ولهذا تجد الملوك أو الرؤساء إذا أرادوا أن يُصدروا المراسم يقولون: "نحن فلان بن فلان نأمر بكذا وكذا". إذاً كل ضمائر الجمع المنسوبة إلى الله تعالى المراد بها التعظيم.
()نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ )أي نقرأه عليك ونحدثك به { نَبَأَهُم} أي خبرهم { بِالْحَقِّ } أي بالصدق المطابق للواقع.
( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ) فتية شباب ولكن عندهم قوة العزيمة وقوة البدن وقوة الإيمان.
( وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) زادهم الله عز وجل هدى لأن الله تعالى يزيد الذين يهتدون هدى، وكلما ازددت عملاً بعلمك زادك الله هدى أي زادك الله علماً.
* * *
)وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً) (الكهف:14)
)وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ) أي ثبتناها وقويناها وجعلنا لها رِباطاً، لأن جميع قومهم على ضدهم، ومخالفة القوم تحتاج إلى تثبيت لا سيما أنهم شباب والشاب ربما يؤثر فيه أبوه ويقول له "اكفر"، ولكن الله ربط على قلوبهم فثبتهم، اللهم ثبتنا يا رب.
( إِذْ قَامُوا) يعني في قومهم معلنين بالتوحيد متبرئين مما كان عليه هؤلاء الأقوام. { فقالوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ } وليس رب فلان وفلان بل هو رب السموات والأرض فهو سبحانه وتعالى مالك وخالق ومدبِّر السموات والأرض. لأن الرَّب الذي هو اسم من أسماء الله معناه الخالق المالك المدبر ولم يبالوا بأحد فهم كسحرة فرعون: )قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طـه:72)
والدنيا كلها قاضية منتهية طالت بك أم قصرت، ولا بد لكل إنسان من أحد أمرين: إما الهَرَم وإما الموت، ونهاية الهرم الموت أيضاً؛ ولهذا يقول الشاعر:
{ لا طِيب للعيش ما دامت مُنغَّصةً لذَّاتُه بادِّكار الموت والهرم } الإنسان كلما تذكر أنه سيموت طالت حياته أم قصرت فإنه لا يطيب العيش له، ولكن من نعمة الله أن الناس ينسَون هذا الأمر، ولكنَّ هؤلاء الناسين منهم من ينسى هذا الأمر باشتغاله بطاعة الله، ومنهم من ينساه بانشغاله بالدنيا.
( السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) السمواتِ السبعِ والأرضُ كذلك سبعٌ كما جاءت بذلك النصوص، ولا حاجة لذكرها؛ لأنها معلومة والحمد لله.
( لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِه إِلَها) ِ لن ندعو دعاء مسألة ولا دعاء عبادة إلهاً سواه، فأقروا بالربوبيَّة وأقرُّوا بالألوهية، الربوبية قالوا: { رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } والألوهية قالوا: { لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً } أي سواه.
( لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً )الجملة هذه مؤكدة بثلاثة مؤكدات وهي: "اللام" و"قد" و"القسم الذي دلَّت عليه اللام".
وقوله: { إِذاً } أي لو دعونا إلهاً سواه {( لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } أي: قولاً مائلاً وموغلاً بالكفر، وصدقوا، لو أنهم دعوا غير الله إلهاً لقالوا هذا القول المائل الموغل بالكفر والعياذ بالله.