* * *
)هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) (الكهف:15)
قوله تعالى: { هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً } يشيرون إلى وجهة نظرهم في انعزالهم عن قومهم، قالوا: { هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا } أي صيَّروا آلهة من دون الله، عبدوها من دون الله.
( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) يعني هلاَّ { يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ } أي على هذه الآلهة، أي: على كونها آلهة وكونهم يعبدونها. فالمطلوب منهم شيئان:
1 - أن يثبتوا أن هذه آلهة.
2 - أن يثبتوا أن عبادتَهم لها حق، وكلا الأمرين مستحيل.
( بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ) السلطان كلُّ ما للإنسان به سُلطة، قد يكون المراد به الدليل مثل قوله تعالى)إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا )(يونس: الآية68)، وقد يكون المراد به القوة والغلبة مثل قوله تعالى عن الشيطان: )إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل:100) وقد يكون الحجة والبرهان كمافي قوله تعالى: { بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي بحجة ظاهرة يكون لهم بها سُلطة؛ ولهذا قالوا:
( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) الفاء للتفريع، مَن: استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، واعلم أن الاستفهام إذا ضُمِّن معنى النفي صار فيه زيادة فائدة، وهي أنه يكون مُشْرَباً معنى التحدي لأن النفي المجرد لا يدل على التحدي، لو قلت: "ما قام زيد"، ما فيه تحدي، لكن لو قلت: "من أظلم ممن افترى على الله كذباً" فهذا تحدي، كأنك تقول: أخبرني أو أوجد لي أحداً أظلم ممن افترى على الله كذباً.
فقوله: { فَمَنْ أَظْلَمُ } أي من أشد ظلماً ممن افترى على الله كذباً في نسبة الشريك إليه وغير ذلك، كل من افترى على الله كذباً فلا أحد أظلم منه، أنت لو كذبت على شخص لكان هذا ظلماً، وعلى شخص أعلى منه لكان هذا ظلماً أعلى من الأول، فإذا افتريت كذباً على اللهِ صار لا ظلم فوق هذا، ولهذا قال تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً }، فإن قال قائل: "نجد أن الله تعالى يقول: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } ويقول: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)(البقرة: الآية114). وأظلم تدل على اسم التفضيل، فكيف الجمع؟". نقول: إن الجمع هو أنها اسم تفضيل في نفس المعنى الذي وردت به، فمثلاً)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ: أي لا أحد أظلم منعاً ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وفي الكذب، أي الكذب أظلم؟ الكذب على الله، فتكون الأظلمية هنا بالنسبة للمعنى الذي سيقت فيه، ليست أظلمية مطلقة لأنها لو كانت أظلمية مُطلَقاً لكان فيه نوع من التناقض، لكن لو قال قائل: "ألا يمكن أن تقول إنها اشتركت في الأظلمية؟ يعني هذا أظلم شيء وهذه أظلم شيء"؟.
فالجواب: لا يمكن، لأنه لا يمكن أن تقرن بين من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وبين من افترى على الله كذباً، فإن الثاني أعظم، فلا يمكن أن يشتركا في الأظلمية، وحينئذٍ يتعين المعنى الأول، أن تكون الأظلمية بالنسبة للمعنى الذي سيقت فيه.
)وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16)
قوله تعالى: {)وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } هذا من قول الفتية، يعني: قال بعضهم لبعض: ما دمتم اعتزلتم قومكم وما يعبدون إلاَّ الله.
وقوله: { إِلاَّ اللَّهَ } يحتمل أن تكون استثناء من قوله: {يَعْبُدُون } وعلى هذا يكون هؤلاء القوم يعبدون الله ويعبدون غيره، والفتية اعتزلوهم وما يعبدون إلاَّ الله، ويحتمل أن تكون "إلاَّ" منقطعة فيكون المعنى أن هؤلاء القوم لا يعبدون الله. ويكون المعنى: "وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون مطلقاً" { إِلاَّ اللَّهَ } أي لكنِ الله لم تعتزلوه ولكنكم آمنتم به، ويحتمل أن تكون استثناء متصلاً على سبيل الاحتياط، يعني: أن هؤلاء الفتية قالوا: { وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ } يخشون أن يكون أحد من أقوامهم يعبد الله. و "ال" في الكهف تحتمل أن تكون للعهد، وكأنه كهف ألفوا أن يأووا، إليه أو أن المراد بها الكمال، أي إلى الكهف الكامل الذي يمنعكم من قومكم، أما الأول فيحتاج إلى دليل أن هؤلاء الفتية كانوا يذهبون إلى كهف معين يأوون فيه، وأما الثاني فوجهه أنه إنما يطلبون كهفاً يمنعهم ويحميهم فتكون "ال" لبيان الكمال، أي إلى كهف يمنعكم ويحميكم من عدوكم.
( يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ) يعني أنكم إذا فعلتم ذلك فإن الله سييسر لكم الأمر؛ لأن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وهنا سؤال في قوله: { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } الفاء، يتبادر للذهن أنها في جواب الشرط، والمعروف أن "إذ" ليست للشرط وإنما الذي للشرط هو "إذا" أو "إذ" إذا اقترنت بـ"ما"، فإذا لم تقترن بـ"ما" فليست للشرط؟
والجواب عن ذلك أن يقال: إما أنها ضُمِّنت معنى الشرط فجاءت الفاء في جوابها { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } أو أن "الفاء" للتفريع وليست واقعة في جواب الشرط، والمعنى: فحينئذ { )وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ } فأووا إلى الكهف.
( وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)أي يهيّئ لكم من شأنكم {مِرْفَقا } أي مكاناً ترتفقون به.