سعيد بن المسيب
فقيه الفقهاء وسيد التابعين سعيد بن المسيب القرشي المخزومي، ولد لسنتين من خلافة عمرة رضي الله عنه، وقد روي عن عدد من الصحابة وبعض أمهات المؤمنين وكان أعلم الناس بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى قال عن نفسه: "ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر وعمر مني.
وروي عنه كثير من كبار العلماء، ومن أبرز من تلقى العلم عنه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، حتى قال عنه: "جالسته سبع حجج وأنا لا أظن عند أحد علما غيره".
وقد لفت تميزه في العلم والفقه نظر بعض الصحابة والتابعين حتى أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وجد رجلا سأله عن مسألة فقال له: إيت هذا فسله ـ يعني سعيدا ـ ثم أرجع إلي فأخبرني، ففعل ذلك وأخبره، فقال ابن عمر لمن حوله لما أخبر بإجابة سعيد معبرا عن إعجابه بعلمه: ألم أخبركم أنه أحد العلماء" وقال لأصحابه عن سعيد: "لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره"، وكان يرسل إليه يسأله عن قضايا عمر وأحكامه.
وكان اشتهاره بالعلم وتقدمه فيه قد شاع على ألسنة الناس، وكان الرجل يأتي إلي المدينة المنورة فيسأل عن أفقه أهلها وأعلمهم فيوجه إلي سعيد، ومن ذلك ما روي عن ميمون بن مهران قال: "أتيت المدينة فسألت عن أفقه أهلها، فدفعت إلي سعيد بن المسيب".
ويقول شهاب بن عباد العصري: "حججت فأتينا المدينة، فسألنا عن أعلم أهلها، قالوا: سعيد".
وقد بلغ من الثقة في علمه وفقهه أنه كان يفتي والصحابة أحياء وقد أعانه على الوصول إلي تلك المنزلة ما كان يتمتع به من حافظة واعية وتفان في تحصيل ألوان المعارف، حتى إنه كان لا ينسى من يلقاه من طلابه، فقد حدث عمران بن عبد الله الخزاعي قال: "سألني سعيد بن المسيب فانتسبت له، فقال: "لقد جلس أبوك إلي في خلافة معاوية" ويقول: "والله ما أراه مر على أذنه شيء قط إلا وعاه".
وقال عنه ابن خلكان: "كان سعيد المذكور سيد التابعين من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع".
وقال عن نفسه: "كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد".
وكان فيه صلابة ورثها عن آبائه وأجداده، فقد روي عنه جده حزنا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما اسمك؟
قال: حزن .. قال: بل أنت سهل.
قال: يا رسول الله اسم سماني به أبواي، وعرفت به في الناس فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال سعيد: "فما زلنا تعرف الحزونة فينا أهل البيت".
وقد جرت عليه هذه الصلابة كثيرا من المتاعب حيث كان دائما على غير وفاق مع الولاة والحكام حاشا عمر بن عبد العزيز وكان لا يأتي أحدا من الولاة، وكان عمر بن عبد العزيز يعرف له مكانته، فكان إذا عرض له قضية يبعث إليه يسأله عن رأيه، ثم يأخذ به، وذات مرة بعث إليه التوجه إلي عمر، فلما ذهب إلي عمر اعتذر له وقال أخطأ الرسول: إنما أرسلناه يسألك في مجلسك، وكان عمر يقول: ما كان بالمدينة عالم إلا يأتيني بعلمه وكنت أوتي بما عند سعيد بن المسيب.
وكان سعيد قد أخذ عن أبي هريرة كل ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان قد تزوج ابنة أبي هريرة رضي الله عنه.
أخلاقه وعبادتهكان سعيد رجلا وقورا له هيبة عند مجالسيه فكان يغلب عليه الجد، ولو نظرت إليه لخيل إليك أنك أمام رجل ممسك بموازين الحق والعدل بين يديه، قد تكفل بحراستها والقيام عليها، مدرك لمدى مسئولية الأمانة التي تحملها، فلا يجامل، ولا يغمض عينيه عن شيء لا يراه صحيحا، فيعلن إنكاره له، غير مبال بما يجره عليه ذلك من أذى، ومن أجل ذلك كانت علاقته بالولاة والحكام علاقة يشوبها التوتر والتربص وقد مر عليه أكثر من أربعين سنة لا يرفع الأذان إلا وهو في المسجد ينتظر الصلاة، وكان دائما في الصف الأول ولم يفته الجماعة إلا يوم أن عاقبه والي المدينة وطوف به في طرقات المدينة، وجاء إلي المسجد، وقد أنصرف الناس من الصلاة، فقال: هذه وجوه ما رأيتها منذ أربعين سنة وقد حج كما قال بضعا وعشرين حجة.
وكان سعيد له تجارة تدر عليه دخلا يكفيه ليعيش عيشة راضية، ولهذا لم يكن يأخذ عطاء من الدولة حجرا على رأيه، وتقييدا لحريته، وكان عنده من يقوم بأمر تجارته، فلا يشغله أمرها عن عبادته وعلمه، وكان يدعو إلي اكتساب المال عن طرقه المشروعة، ليتمكن من صلة الرحم وأداء الأمانة، وصيانة الكرامة، والاستغناء عن الخلق، ومما أثر عنه في ذلك قوله: "لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يعطي منه حقه، ويكف به وجهه عن الناس". وخير ما يصور وجهة نظره في امتلاك المال قوله: "اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه، ولا محبة للدنيا، ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم في وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه. وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار".
وقد نما ماله حتى ترك عند وفاته ثلاثة آلاف دينار، وقال والله ما تركتها إلا لأصون بها ديني وحسبي، وكان يقول: "من استغنى بالله افتقر الناس إليه".
ولهذا كان سعيد في بحبوحة من العيش، وقد وضح أثر ذلك في مظهره وملبسه، وحسن هيئته تحدثا بنعمة الله عليه، وكان بمسلكه ذلك يعطي المثل العملي للعالم في نزاهته ونظافته، وحسن هندامه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أجمل الخلق منظرا، وأعجبهم مظهرا، وأنظفهم ثوبا، وكان يمشط شعره، ويدهن الطيب حتى تشم رائحته العطرة من بعيد وإذا مس أحد يده يبقى أثر الطيب عالقا بها مدة طويلة، وكل تعاليمه صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته يعلم الناس أن يحرصوا على بهاء المنظر وجمال الصورة وطيب الرائحة وحسن السمت. ولهذا من فقه الرجل أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القرآن الكريم يقول:
{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } (الأحزاب ،الآية:21) وسعيد رحمه الله كان حريصا على أن يقفو خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم الناس سنته وهديه.