إن المجال الذي عرفت فيه الحرية دوما- لا باعتبارها مشكلة بل بما هي واقعة من وقائع الحياة اليومية- إنّما هو الميدان السياسي..
وبالرغم من التأثير البالغ الذي مارسه مفهوم الحرية الداخلية غير السياسـية علـى تقاليـد الفكر، يبدو أنّه يمكن الإقرار بأن. الإنسان لا يمكنه أن يعرف شيئا عن الحرية الداخليـة إذا هو لم يختبر بادئ ذي بدء حرية تكون واقعا ملموسا في العالم. فنحن نعـي أولا بالحريـة أو بنقيضها في علاقتنا بالآخرين، لا في علاقتنا بأنفسنا. وقبل أن تصبح الحرية صفة للفكر أو ميزة للإرادة، فهمت على أنها منزلة الإنسان الحر.، تلك التي تمكنه قولا وفعلا من التنقل ومغادرة البيت والتجول في العالم وملاقاة أناس آخرين...
من الواضح أ ن الحرية لا تسم كلّ شكل من أشكال العلاقات الإنسانية ولا كلّ نـوع من الجماعات فحيثما يعيش أناس معا دون أن يشكلوا كيانا سياسيا- مثلما هو الشأن فـي المجتمعات القبلية أو في حميمية البيت العائلي- فإن العوامل التي تحكم أفعالهم وتصرفاتهم ليست بالحرية، بل هي ضرورات الحياة وهاجس الحفاظ عليها. وعلاوة على ذلك لا يكـون للحرية وجود في العالم طالما لم يصبح العالم الذي صنعه الإنسان مسرحا للفعـل والقـول،و هو ما يلاحظ في الجماعات المحكومة استبداديا و التي تعزل رعاياها داخل الحدود الضيقة للبيت مانعة بذلك نشأة حياة عمومية، وفي غياب حياة عمومية مضمونة سياسيا، تظل الحرية منقوصة من فضاء العالم الذي يمكنها ان تظهر فيه للعيان. صحيح أنها قد تظل تسكن في قلوب الناس رغبة أو إرادة أو رجاء أو تطلعا، و لكن قلب الإنسان مثلما نعلم جميعا هو مكان شديد العتمة ولا يمكن لما يجري في عتمته تلك أن يعتبر واضحا قابلا للإثبات. إن الحرية بما هي واقعة قابلة للإثبات تتطابق مع السياسة.كلاهما في نسبة إلى الآخر و كأنهما وجهان لشيء واحد.