ففي مواجهة اتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب والتطرف انبرى البعض يفند الشبهات ويوضح سماحة الإسلام , وأقيمت مؤتمرات وندوات وطرحت كتب ومقالات للدفاع عن دين الله وكأنه أريد لنا أن نقف موقف الدفاع عن أنفسنا وأن ندخل جميعا في قفص الاتهام ،
وأن يصبح أعداء الإسلام والمسلمين هم القضاة على هذه الأمة!! , وأن ننشغل عن دعوتنا وعن إبلاغ الحق للخلق بهذا الحادث الذي ارتكب هنا أو هذه التهمة التي وجهت هناك ,
ناهيكم عن الهزيمة النفسية ودخول الكثرة الجحور، وصار الكل وكأن على رأسه بطحا من جراء الاتهام بالإرهاب والتطرف وسوء الرد عليه . ولذلك كان لابد من عرض موضوع السماحة بعيداً عن الإفراط والتفريط .
**القرآن الكريم يأمر المسلمين بالسماحة مع مخالفيهم***
إن القارىء لكتاب الله تعالى يجد فيه الدعوة الصريحة إلى معاني العفو والصفح والسلام والتسامح والدفع بالتي هي أحسن والمجادلة بالحسنى،لكننا هنا نشير إشارات سريعة إلى بعض ما ورد في كتاب الله تعالى مرشدا على السماحة مع المخالفين.
مخاطباً نبيه والمسلمين في شخصه الكريم ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) [يونس 99]
وقال جل وعلا ( قل يا أيها الكافرون .لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين ) [سورة الكافرون ]
وقال سبحانه ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ) [العنكبوت :46] وفي مواجهة محاولات أهل الكتاب إرجاع المسلمين عن دينهم يقول تعالى ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ) [البقرة 109 ] وقال: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) [البقرة 256]. فأي سماحة بعد هذا؟!
**النبي يأمر أمته بالسماحة ويطبق ذلك على نفسه***
وكذلك رسول الإسلام أرشدنا بقوله وفعله إلى هذا المعنى العظيم،فقد قيل لرسول الله : أي الأديان أحب إلى الله قال : "الحنيفية السمحة " [ أحمد والبخاري] ,
والمراد بالأديان الشرائع الماضية قبل أن تبدل وتنسخ , والحنيفية ملة إبراهيم , والسمحة السهلة , وفي الحديث " اسمح يسمح لك " [ أحمد وصحح الشيخ شاكر إسناده]. وورد في الحديث: " أفضل المؤمنين رجل سمح البيع سمح الشراء سمح القضاء سمح الإقتضاء " [ رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات] .
ولما قيل للنبي : ما الإيمان ؟ قال :" الصبر والسماحة " [ أحمد]. ويوم الحديبية كتب علي بن ابي طالب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقالوا : لو علمنا أنك رسول الله لم نمنعك ولتابعناك , ولكن اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ،
فقال النبي :" أنا والله محمد بن عبد الله , وأنا والله رسول الله "فقال علي : والله لا أمحوه أبداً قال : فارنيه , قال : فأراه إياه فمحاه النبي بيده فلما دخل ومضت الايام أتوا علياً فقالوا : مُر صاحبك فليرتحل فذكر ذلك علي رضي الله عنه لرسول الله فقال : "نعم " ، فارتحل .[البخاري ومسلم ]
**التسامح من أعظم أسباب دخول الناس في هذا الدين***
لقد أثبت المسلمون الأوائل أن التسامح مع الآخرين هو الأصل في التعامل معهم وشهدت معاهداتهم وسيرتهم بذلك ،
فقد صالح أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة أهل الشام على الإبقاء على معابدهم من الكنائس والبيع داخل المدن وخارجها مصونة لا يهدم منها شيء ولا يغير من معالمها شيء,
وصالحهم على حقن دمائهم وحفظ حياتهم , وصالحهم على الدفاع عنهم وحمايتهم من اعتداء من يهم بالاعتداء عليهم، وصالحهم على أن من قاتلهم أو ناوأهم وجب على المسلمين أن يقاتلوه , ويدفعوه عنهم بقوة السلاح ,
فهل هذه المبادىء يُمكن أن تصور على أنها استكراه للناس للدخول في دين الله ؟ أو يشم منها رائحة غزو مادي لنهب ثروات أو جمع أموال ؟ !.
لقد رأى أهل الذمة في هذه المصالحات معاني العدل والرحمة , ولمسوا وفاء المسلمين لهم بشروطهم ؛ فما كان منهم إلا أن صاروا أعواناً للمسلمين على أعدائهم ودخلوا في دين الله أفواجاً وبهذه السماحة فتحت بلاد الشام ,
وكم من بلاد فتحت بالقرآن كدول أفريفيا وجنوب شرق آسيا وبلاد الهند وذلك لما لمسه أهل هذه البلاد من سماحة الإسلام في تعاملهم مع التجار، بل كانت المرأة من أهل الشام تأمن على نفسها بحضرة الصحابة أكثر من أمنها على نفسها بحضرة أبيها .
إن المتتبع سيجد أن المسلمين هم أحرص الناس على الرفق والسماحة في تنفيذ العهود والمصالحات وأن هذا من أعظم أسباب سرعة انتشار الإسلام , ولم تكن هذه السماحة هي منهج أبي عبيدة وحده رضي الله عنه بل كانت المنهج الذي أقام الإسلام عليه دعائمه متمثلاً في الكتاب والسنة ,
حُكي أن القائد قتيبة بن مسلم لما دخل سمرقند اشتكاه أهلها إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله فرفع المسألة إلى القاضي المسلم فتبين للقاضي أن قتيبة دخلها دون دعوة أهلها للإسلام أو الجزية أو القتال ،- وكان قتيبة قد توفي وتولى نائبه- فحكم القاضي بخروج الجيش المسلم من سمرقند حتى يتم دعوة أهلها وإعلامهم ,
وخرج الجيش المسلم فما كان من أهل سمرقند إلا أن أعلنوا إسلامهم ودخلوا في دين الله , لقد رأى أهل الذمة وغيرهم وفاء المسلمين لهم بشروطهم وشاهدوا حسن سيرتهم وجربوا معاملتهم فوقفوا معهم مخلصين.
فهذه هي سماحة الإسلام التي تنبع أساسا من التمسك بالدين ،لا ما يروج له الآخرون من أن السماحة تعني التخلي عن الدين.
إن الذين يتهمون الإسلام بعدم السماحة إما جاهلون به وإما أنهم عالمون لكنهم مغرضون ،وإن تاريخ المسلمين قديما وحديث لخير شاهد على سماحة هذا الدين ،وإن الحقبة الأخيرة لتشهد أن التعصب وعدم التسامح لهو صفة من صفات غيرنا ممن استباحوا دماء المسلمين وأعراضهم وأرضهم وأموالهم في البوسنة وكوسوفا وفلسطين و...وغيرها.