بيئته
ولد الإمام أحمد في بغداد في ربيع الأول عام 164 هـ/ 780 م. وقد جاءت أمه إلى بغداد حاملاً به من مرو التي كان يقيم بها أبو محمد بن حنبل الشيباني.
وكانت مواطن الشيبانيين بالبصرة وباديتها. فبعد عمرانها عاش الشيبانيون فيها، وكانت أسرة أمه وأبيه تنزلان بالبصرة وضواحيها، وقيل لأحمد بصري لسكن أسرته في البصرة وإقامتها بها، وكان إذا زار البصرة صلى في مسجد بني مازن الشيبانيين، ويقول: »إنه مسجد آبائي«.
فبغداد إذن هي مولد ومنشأ وموطن الإمام أحمد، والبصرة هي موطن أسرة أبيه وأمه الشيبانيين.
وقد نشأت بغداد عاصمة العباسيين في عهد المنصور العباسي عام 145 هـ وبنى قصره المعروف بقصر الذهب في وسطها، وأخذت مبانيها تكثر، وعمرانها يزداد. وولد الإمام أحمد وقد مضى من عمران دار السلام تسعة عشر عاماً هجرياً، وصارت بغداد منذ نشأت عاصمة الخلافة، ومدينة العلم، ومجمع الحضارات الإسلامية.
وكان البغداديون موصوفين بالجلد والجد في طلب العلم على اختلاف ضروبه. وكان سفيان بن عيينة كثيرَ الثناء على شباب البغداديين وشدة رغبتهم في طلب العلم. وقال ابن علية: »ما رأيت قوماً أحسن رغبة ولا أعقل في طلب الحديث من أهل بغداد«، وقال ابنُ عائشة: »ما رأيت أحسن من تلقف أصحاب الحديث ببغداد للحديث«.
وقال الإمام الشافعي ليونس بن عبد الأعلى: يا يونس، أدخلت بغداد؟ قال: لا، قال: ما رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس! وكان الشافعي يقول: ما دخلت بلداً قط إلا عددته سفراً إلا بغداد، فإن حين دخلتها عددتها وطناً. وكان يقال: الأرض كلها بادية وبغداد خاضرتها، ومن لم يرها لم ير الدنيا.
وقد اتسع عمران المدينة، وازدهرت حضارتها، وكثرت مساجدها، ومدارسها، وطلاب العلم فيها. وجاء في بعض رسائل أبي العلاء: العلم في بغداد أكثر من الحصا عند جمرة العقبة. وكان الصاحب بن عباد الوزير يقول: بغداد في البلاد كابن العميد بين العباد.
وقدولي المهدي الخلافة سنة 158 هـ في ذي الحجة، وتوفي في المحرم سنة 169 هـ. وفي عهده ولد أحمد، وشهدت بغداد ألواناً من الحضارة لمن تشهدها من قبل. ثم شهدت بغداد خلافة الهادي (محرم 169 - ربيع الأول 170 هـ)، فالرشيد (ربيع الأول 170 – جمادى الآخرة 193 هـ)، فالأمين (193 – المحرم 198 هـ)، فالمأمون (198 – رجب 218 هـ)، فالمعتصم (218 – ربيع الأول 227 هـ)، فالواثق (227 – 232 هـ)، فالمتوكل (ذو الحجة 232 – 247 هـ).
ولشهرة بغداد بالحديث زارها الإمام البخاري (المتوفى سنة 256 هـ) فاجتمع عليه أصحاب الححديث من أهلها، فعمدوا إلى مئة حديث، فقبلوا متونها وأسانيدها، ثم كلما عرضوا عليه حديثاً منها قال: لا أعرفه، فلما كملت المئة، أخذ يعيد كل حديث إلى سنده، وكل سند إلى متنه، فأقر له البغداديون بالحفظ والعلم.
وكان الإمام أحمد وابنه عبد الله من أعظم المحدثين في بغداد، وقد سكن الإمام أبو حنيفة بغداد في آخر حياته، وكان من تلاميذه أبو يوسف الأنصاري القاضي (182 هـ)، ومحمد بن الحسن الشيباني (189 هـ)، وزار الشافعي بغداد أكثر من مرة، وفيها أملى مذهبه القديم، ويقال لمذهبه بعد رجوعه من بغداد إلى مصر: المذهب الجديد. ولقيه الإمام أحمد في بغداد وأخذ عنه.
وصار للفقه –كما كان للحديث- منزلة عالية في بغداد من بين سائر العلوم. وقامت في بغداد سوق نافقة للعلوم والآداب والفلسفة والتاريخ، وشتى أنواع المعرفة، وحفلت بخزائن الكتب التي لم يكن لها نظير في بلاد الإسلام.
وفي هذه البيئة –بيئة بغداد- عاش الإمام أحمد بن حنبل متأثراً بهذا الجو العلمي، ومؤثراً فيه، فكان علَماً من أعلامه، بل من أعلام الإسلام في مختلف عصوره، عليه رحمة الله.
أما مدينة البصرة وبيئتها التي نشأ فيها قوم أحمد الشيبانيون، فقد بنيت عام 14 هـ في عهد الخليفة عمر، بناها عتبة بن غزوان بأمر الخليفة، وأخذ عمرانها يتسع، والحياة فيها تزدهر، ونبغ فيها فحول من العلماء والشعراء والأدباء على اختلاف العصور.
وصارت البصرة بعد قليل من أكبر مراكز الحياة العقلية في الإسلام، ومن أهم موانئ البحرية والمدن التجارية، وزادت حضارتها في عصر العباسيين، وكان الخلفاء العباسيون لا يولون عليها إلا أميراً من أمراء اليبت الهاشمي العباسي، ومنهم جعفر بن سليمان بن علي، ومحمد بن سليمان الهاشمي، وإسحاق بن سليمان بن علي الذي ولي البصرة للرشيد ومات ببغداد وكان من معادن العلم، وعيسى بن جعفر حفيد المنصور وصهر الأمين.
وقد مات في البصرة مدارس اللغة والنحو والأدب، والزهد والتصوف والاعتزال والفلسفة وغيرها.
ومن أشهر علمائها: أبو عمر بن العلاء (70-104 هـ)، والخليل بن أحمد (100-175 هـ)، وسيبويه (189 هـ)، وأبو عبيدة (110-209 هـ)، والأصمعي (122-216 هـ)، والجاحظ (255 هـ).
ومن أشهر أدبائها وشعرائها: الفرزدق وجرير، (توفيا عام 110 هـ)، وابن المقفع (106-143 هـ)، ومسلم بن الوليد (208 هـ).
ونبع فيها واصل بن عطاء (80-131 هـ)، وعمرو بن عبيد (80-144 هـ)، وأبو هذيل العلاف، وهو أستاذ المأمون في الاعتزال، والنظام، وابن أبي دؤاد (160-240 هـ)، والكندي الفيلسوف (253 هـ).
واشتهرت البصرة بمربدها، وكان سوقاً أدبية مشهورة، كعكاظ، وكان يقال: العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة.
وقد نزل بالبصرة من الصحابة والتابعين: أبو موسى الأشعري (44 هـ)، وأنس بن مالك (93 هـ)، والحسن البصري (110 هـ)، وأبو الأسود الدؤلي (69 هـ)، وسعيد بن أبي عروبة (156 هـ)، وهو شيخ البصرة وعالمها وأول من دوّن العلم بها. فهو أول من ألف الكتب بالعراق. وكان بها إياس المزني قاضي البصرة، وتوفي عام (122 هـ).
وفي هذه البيئة عاش قوم أحمد بن حنبل –الشيبانيون- ولا شك أن لهذا الجو الذي عاشوا فيه أثراً فيهم، قد يكون له تأثير في الإمام أحمد وأسرته.