هدف السورة: أهمية توريث الدين للأبناء
فطر الله تعالى الخلق على حبّ الأبناء ولكنه كما في كل الرزق الذي يرزقنا به يحب أن نستعمله في طاعة الله ومرضاته والله تعالى يريد من عباده أن يجعلوا أولادهم حفظة للدين حتى تتوارثه الأجيال كما نورث أبناءنا المال من بعدنا. فحبّ الأبناء أمر فطري ولكن للذرية هدف أسمى من المتعة الفطرية بهم ألا وهو حفظ الدين للأجيال. ولذا فإن أكثر كلمتين تكررتا في السورة هما (الولد والورائة).
وراثة الدين: تبدأ هذه السورة المكية بالحديث عن وراثة الدين التي تمثلت في دعوة سيدنا زكريا (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) آية 5 و 6 إلى (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) آية 12 نتيجة الدعاء. والسبب الذي من أجله طلب زكريا الولد هو ليرث الرسالة والكتاب، كما هي الحال في آل عمران فزوجة عمران وهبت ما في بطنها لله وزكريا يريد ابناً يرث الدين من بعده ومريم وعيسى ثم ابراهيم واسحق ويعقوب ثم اسماعيل وأولاده فكل هؤلاء آباء تورث أبناءهم هذا الدين. الأمر واضح صدق سيدنا زكريا ربه بدعائه وعلم الهدف حقاُ فاستجاب له تعالى بأن وهبه سيدنا يحيى الذي آتاه الحكم صبيا.
عيسى : النموذج الثاني في القصة و سيدنا عيسى عليه السلام (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * ...* وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) آية 30و 32. وجاءت كلمة البر على لسان عيسى عليه السلام ويحيى عليه السلام وهذا لأن أهلهم ربّوهم ليرثوا هذا الدين فكان الأبناء بارّين بأهلهم وهذا دليل حسن الخلف لخير السلف.
ابراهيم عليه السلام: قصة ابراهيم الخليل هي نموذج عكسي لما سبق إذ أن ابراهيم هو الذي كان ينصح أباه المشرك برفق وأدب ورقة (تمررت كلمة با أبت اربع مرات) ولمّا لم يستجب له أبوه واعتزلهم وهب الله تعالى له اسحق ويعقوب ليكونوا من ورثة دينه الحنيف (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا) آية 49 .
ثم تصل الآيات إلى سيدنا اسماعيل (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) آية 55 وكيف كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة.
التعقيب: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) آية 58 وتذكر الآية الذرية الصالحة الذين يتوارثون الدين والرسالة جيلاً وراء جيل. (نلاحظ تكرار كلمة ذرية) ويأتي مقابل هذا الإرث من لم يطبق هذا الأمر (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) آية 59 كيف سيحلّ عليهم عذاب الله. ونرى بديع سياق الآيات القرآنية ووكأنها بناء متماسك يطلب توريث الأبناء الرسالة والمنهج الحق ويعرض عقوبة الذي يخالف هذا المنهج.
ومن سياق الآيات نلاحظ أن ثلاثة أرباع السورة تقريباً تحدثت عن حاجة البشر للولد ونماذج مختلفة بأسلوب رقيق فجاءت فواصل الآيات رقيقة عذبة لأن الولد نفسه يمثل الرقة والحنو والعطف وقد وردت كلمة الرحمن في السورة 16 مرة. أما الربع الأخير من السورة فجاءت الآيات تنفي حاجة الله تعالى للولد وهو خالق الخلق كلهم وجاء أسلوب الآيات قاسياً وفواصل الآيات شديدة لأن هذا الأمر تخر الجبال له وتكاد السموات يتفطرن وتنشق الأرض منه فالله تعالى واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد لا إله إلا هو لا شريك له وما اتخذ صاحبة ولا ولدا سبحانه وتعالى عما يقولون ويفترون.
سميت السورة بـ (مريم) تخليداً لمعجزة خلق إنسان بلا أب ولأن الأم التي تمثلت في مريم عليها السلام هي المؤسسة والمورثة الحقيقية للأبناء وهي تمثل نموذجاً للمصاعب والمحن التي يواجهها توريث الدين للأبناء وهي سيدة نساء العالمين الطاهرة العذراء البتول.