حكمة قديمة يثبت التاريخ والواقع مصداقيتها إلى حد بعيد فإذا ساد العدل في مجتمع من المجتمعات فإن الإنسان يعيش آمناً في نفسه آمناً على أهله وماله وبالتالي يشعر بانتمائه الحقيقي للمجتمع الذي يعيش فيه وفي ظل هذا الانتماء القوي من الفرد للمجتمع والدولة تنمو الحاجة الملحة للدفاع عن كيان هذا المجتمع وهذه الدولة في كل عضو من أعضائه ولذلك نجد هذا المجتمع متيناً متماسكاً عصياً على الأعداء لا يستطيعون النيل منه لأن كل فرد في المجتمع يعلم أنه إن لم يهب للدفاع عن هذا المجتمع فإنه في ظل الأعداء سيسام الهوان والذل فيرفض ذلك بطبيعته وهكذا تستمد هذه المجتمعات متانتها في مواجهة العدوان الخارجي .
أما داخلياً فمن المعلوم أن لا يوجد المجتمع الملائكي على وجه هذه الأرض فالبشر بطبيعتهم خطّاءون وحتى مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم وهو خير مجتمع عرفته الإنسانية لم يخل من قاتل أو لص أو زان أو منحرف ولكن المجتمع بشكل عام كان مجتمعاً فاضلاً متماسكاً يقف كله في مواجهة أي انحراف أو خروج على النمط الاجتماعي الإسلامي . فلم تكن الحكومة وحدها هي المسئولة عن تطبيق القانون ولكن الشعب بأكمله كان مسئولاً عن ذلك . ولذلك كانت أي مخالفة للقانون أو خرق له تواجه أول ما تواجه من أقارب المخالف أنفسهم لأنهم لا يريدون أن يخرج من بينهم أي شخص غير ملتزم من الممكن أن يسئ إلى سمعة العائلة .
ومن هنا نستطيع أن نفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " فقد استهجن الصحابة هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان هذا القول هو شعارهم في الجاهلية فاستغربوا أن يكون ماضياً في الإسلام فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً ؟ قال ترده عن ظلمه فذلك نصره . وهكذا أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمة جديدة لهذا المثل وبعداً إسلامياً واضحاً . فحين يكون المجتمع متواصياً بالحق متواصياً بالصبر ملتزماً بالنصيحة متكاتفاً في مقاومة المنكر يشعر الفرد أن هذا المجتمع مجتمعه وأنه يستحق أن يعيش فيه وينتمي إليه ويدافع عنه .
ولكن في المجتمعات الحديثة التي يعيش فيها المسلمون يشعر المواطن المسلم بالاغتراب في مجتمعه لأنه إذا ظلم فلن يجد له نصيراً في القضاء . بل يكثر الناصحون من حوله : ابتعد عن طريق هؤلاء وإلا تعقدت أمور حياتك أكثر ، في ظل الأنظمة العربية المعاصرة أكلت الدولة حقوق الأفراد واستباحت حرماتهم فتجسست عليهم وراقبت تحركاتهم وسامتهم العذاب ألواناً ، وأكلت أموالهم ، ومنعت حقوقهم ، فإذا صرخ مظلوم لم يجد أُذناً صاغية ، وإذا استغاث ملهوف لم يجد من يجيب فأصبحت هناك فجوة سحيقة بين النظام الحاكم وبين الشعب تتجلى في خذلان الشعوب باستمرار لهذه الأنظمة في كل معركة تخوضها هذه الأنظمة مع أعدائها في الخارج وكذلك سرعة تحول الجماهير بإعطاء ولائها السريع لأصحاب الانقلاب الجديد على النظام السابق .
ويجب ألا تغرنا هذه الجماهير التي تساق لتأييد هذا النظام أو ذاك في مظاهرات صاخبة تصل أعدادها إلى الملايين أحياناً فالله يعلم كيف تساق هذه الجماهير خوفاً وطمعاً وكذلك يجب ألا تغرنا النسبة في صناديق الاقتراع التي ينجح فيها الرئيس بنسبة 99,999% فنفس هذه الجماهير ستهتف للرئيس الجديد الذي قتل الرئيس السابق ونفس النسبة سيحصل عليها الرئيس الجديد 99،999% ونفس الجماهير ستلعن الرئيس السابق في العلن لأنه قد سمح لها أن تلعن في العلن ولكنها في نفس الوقت تلعن الرئيس الجديد في سرها لأنها لا تستطيع أن تلعنه علناً . ومن هنا كانت قولة الدكتاتور المصري السابق إسماعيل صدقي حين شتم الجماهير التي كانت تصفق له حينما كان رئيساً للوزراء وشتمته عندما ابتعد عن هذا المنصب فقال للجماهير " يا شعب كل حكومة " أعرف مديراً عاماً سابقاً كان الكل يخطب وده حين كان في إدارته وأفواج المتزلفين تأتي إلى مكتبه وإلى بيته وتحييه في الشارع وتتقرب إليه بكل وسائل التقرب حتى إذا أُقيل بعد أن بلغ سن التقاعد أصبح يعاني من عزلة شديدة لا يكاد يرى من حوله أحداً وقال في مرارة ليس في الدنيا صديق وفي وما درى هذا المسكين أن الدنيا مليئة بالأصدقاء الأوفياء ولكن أفعاله السيئة أبعدت عنه كل الأصدقاء الأوفياء وجمعت من حوله كل منافق صاحب مصلحة حتى إذا لم يبق عنده مصلحة لم يبق عنده أحد . ومضى ولا أحد يترحم عليه ولكن أنات المظلومين ودعواتهم تلاحقه في قبره بعد وفاته .
إن الجندي الذي يفتقد الكرامة ويتعامل معه ضباطه وقادته باحتقار لا يثبت في ساحة المعركة لأنه لا يملك الكرامة حتى يدافع عنها وهذا الأمر هو الذي يفسر لنا فرار الجيوش العربية في ساحة المعركة والمواجهة مع الأعداء وهذه القلة التي تثبت إنما تثبت لأسباب أخرى أهمها أنها تجاهد في سبيل الله وليست في سبيل فلان أو علان .
وإن المخلصين من مدنيين وعسكريين حين يرون الترقيات تذهب لكل منافق ومتزلف في الوقت الذي يحرم هؤلاء المخلصون منها فإنهم يفقدون مع الزمن الدافع للجد والإخلاص والمثابرة إلا ن رحم الله .
ومخطئ من يتصور أن الشعوب تستنيم للظلم وترضى به ، فهي تختزن في داخلها كل مظلمة تمر بها وقد يطول بها القهر فتجد المتنفس في الإفساد والانتقام من الظالم بشكل سلبي بحيث لا تتجاوب معه حين يطلب منها الوقوف معه بل تخذله في أول منعطف أو تختزن القهر في داخلها حتى إذا تراكم أصبح كقدر الضغط ينفجر في أي لحظة ومشكلة الكثير من الظالمين أنهم حين يرون قدر الضغط تتنفس يظنونها هادئة وان الضغط والحرارة في داخلها تحت السيطرة ومشكلة هؤلاء الظالمين أنهم يعميهم جنون العظمة عن معرفة الحقيقة ، وكذلك يعميهم حب الثناء الذي يقوم به المنافقون من حولهم فينتفشون ولا يستمعون لنصيحة مخلص أمين . وهكذا يفتح هؤلاء أعينهم على أحد مصيبتين إما هزيمة ساحقة على يد الأعداء أو انفجار ثورة عارمة لا تبقي ولا تذر تعصف بهم وبعروشهم وما يحدث في العالم اليوم في مناطق عديدة يؤكد صحة ما نقول وحقائق التاريخ تؤكد صحة هذا القول . وحقائق القرآن الكريم تؤكد هذا " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " . وحين سئل عمر بن الخطاب رضى الله عنه " أيوشك أن تخرب القرى وهي عامرة " قال " نعم إذا علا فجّارها على أبرارها " هذه الحكمة الرائعة تفسر لنا الوعي التاريخي عند عمر رضى الله عنه وتحذرنا جميعاً من استمرار علو الفجار على الأبرار فإن النتيجة هي الدمار الشامل والعياذ بالله .
ولذلك إذا أرادت الأمة أن تنقذ نفسها قبل فوات الأوان وقبل حصول الانفجار الكامل لا بد من العمل الحثيث من أجل أن تكون كفة الأبرار هي الراجحة في المجتمع الإسلامي وهذه مسئولية كل مسلم في أنحاء الأرض قبل أن نصحو على هزيمة أشد وأقسى من النكبات التي مرت بنا أو فوضى عارمة تلف العالم الإسلامي بأكمله في غياب العدل والحق والاستقامة " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " . " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ".