ورقة مقدمة لندوة الأسرة المسلمة والتحديات المعاصرة –مجلة البيان-
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد:
مقدمة:
إن وجود الأسرة هو امتداد للحياة البشرية، وسر البقاء الإنساني، فكل إنسان يميل بفطرته إلى أن يَظْفَرَ ببيتٍ وزوجةٍ وذريةٍ..، (فالإنسان لا يكون قويًا عزيزًا وفي منعة، إلا إذا كان في أسرة تحصنه وتمنعه)([1])، وقد ساهمت الأسرة بطريق مباشر في بناء الحضارة الإنسانية، وإقامة العلاقات التعاونية بين الناس، ولها يرجع الفضل ـ بعد الله سبحانه وتعالى ـ في تعلِّم الإنسان لأصول الاجتماع، وقواعد الآداب والأخلاق، كما أنها السبب في حفظ كثيرٍ من الحِرف والصناعات التي توارثها الأبناء عن آبائهم.
وقد اهتم الإسلام بالأسرة اهتمامًا شديدًا، وأولاها عنايةً فائقة، وحرص على تماسكها وحفظها مما يقوِّض دعائمها، ومن ثم جاء هذا البحث، وهو بعنوان "التماسك الأسري في ظل العولمة"، لمناقشة أثر العولمة وخطورتها على الأسرة المسلمة، وقد انتظم البحث في خمسة مباحث رئيسة:
المبحث الأول ـ مفهوم الأسرة.
المبحث الثاني ـ مفهوم العولمة.
المبحث الثالث ـ عناية الشريعة الإسلامية بالأسرة وحمايتها.
المبحث الرابع ـ خطورة العولمة على الأسرة المسلمة وعلى الحياة الاجتماعية.
المبحث الخامس ـ توصيات لحماية الأسرة المسلمة من العولمة.
المبحث الأول ـ مفهوم الأسرة
الأسرة لغة.
ورد في لسان العرب: (الأسرة: هي الدرع الحصين)([2])، وفي المعجم الوسيط معنى الأسرة لغويًا: يعني القيد، يُقال: أسره أسرًا وإسارًا، قيدَّه وأسره؛ أخذه أسيرًا، ومعناها أيضًا: الدرع الحصينة، وأهل الرجل وعشيرته، والجماعة يربطها أمر مشترك([3])، وجاء في القاموس المحيط: (والْأُسْرَةُ بالضم: الدِّرْعُ الحَصينَةُ، من الرَّجُلِ الرَّهْطُ الْأَدْنَوْنَ)([4]).
الأسرة اصطلاحًا.
قال ابن الأثير: (الأسرة عشيرة الرَّجل، وأهْلُ بيته؛ لأنه يَتَقوّى بهم)([5]).
وعرفها بعض علماء الاجتماع بأنها (جماعة اجتماعية أساسة ودائمة، ونظام اجتماعي رئيس، وهي ليست أساس وجود المجتمع فحسب، بل هي مصدر الأخلاق والدعامة الأولى لضبط السلوك، والإطار الذي يتلقى منه الإنسان أول دروس الحياة الاجتماعية)([6]).
وأورد الدكتور فؤاد بن عبد الكريم عدة تعريفات للأسرة منها([7]):
- (مؤسسة فطرية اجتماعية بين رجل وامرأة، توفرت فيها الشروط الشرعية للاجتماع، التزم كل منهما بما له وما عليه شرعًا، أو شرطًا، أو قانونًا).
- (الجماعة الإنسانية المكونة من الزوج، والزوجة، وأولادهما غير المتزوجين، الذين يعيشون معهما في سكن واحد، وهو ما يُعرف بالأسرة النواة).
- (المؤسسة الاجتماعية التي تنشأ من اقتران رجل وامرأة بعقد يرمي إلى إنشاء اللبنة التي تساهم في بناء المجتمع، وأهم أركانها: الزوج، والزوجة، والأولاد).
كما عُرِّفت الأسرة على أنها (شكل اجتماعي يتميز بطابع ثقافي مميز يختلف من مجتمع لآخر، ويعمل هذا النظام الثقافي على طبع وتلقين الفرد منذ نعومة أظافره السلوك الاجتماعي المقبول، ويتعلم داخلها طبيعة التفاعل مع الأفراد والعادات والتقاليد، وبقية النظم الاجتماعية السائدة في المجتمع)([8]).
وعرفها البعض على أنها: (مجموعة من الأفراد، ارتبطوا برباط إلهي، هو رباط الزوجية أو الدم أو القرابة)([9]).
كما أنها (تتكون غالبًا من الأب والأم والأولاد، وهم مجموعة من الأعضاء ينتمون إلى جيلين فقط، جيل الآباء وجيل الأبناء، كما تشتمل على شخصين بالغين عائلين هما الذكر والأنثى)([10]).
ومن الملاحظ أن التعريف الأول، جعل دائرة الأسرة أوسع؛ فجعل كل ارتباط بين الأفراد عند طريق الزوجية أو الدم أو القرابة، يشكل الأسرة، بينما التعريف الثاني جعلها تتكون غالبًا من الأب والأم والأولاد، فـ (الزوجان هما دعامة الأسرة وركيزتها)([11]).
ولا يظهر فارق بين التعريفين؛ لأن الأسرة قد تكبر فتكون كما في التعريف الأول، وقد تصغر فتكون كما في التعريف الثاني، إلا أننا نخلص من هذا، أن الأسرة: هي المجموعة المتناسلة من الأب والأم، إذ هما الرباط بين هذه المجموعة سواءً كبرت أو صغرت، وهم غالبًا (يعيشون تحت سقف واحد، وتجمعهم مصالح مشتركة)([12]).
وهنا تظهر فائدة، وهي العلاقة بين معنى كلمة أسرة في اللغة، ومعناها في الاصطلاح، حيث إن من معاني كلمة الأسرة: (الدرع الحصينة)، وكأن الأسرة يتحقق بها حماية الإنسان مما يهدد كيانه، فبالأسرة يتقوى الفرد، ويشتد عوده، والمعنى الثاني لكلمة إسار هو: (ما يشد به الأسير)، فكأنه لوحظ معنى الشد والربط والوثاق، حيث إن في الأسرة ترابط اجتماعي وتماسك إنساني لدرجة الثبات والقرار، كل هذه المعاني العظيمة قصدها الإسلام من تشريع الزواج، وتكوين الأسرة، وذلك لحماية المجتمعات والأفراد.
المبحث الثاني ـ مفهوم العولمة([13])
العولمة لغة.
العولمة ثلاثي مزيد، يُقال: "عولمة" على وزن قولبة، وكلمة "العولمة " نسبة إلى العَالم ـ بفتح العين ـ أي الكون، وليس إلى العِلم ـ بكسر العين ـ، والعالم جمع لا مفردله، كالجيش والنفر، وهو مشتق من العلامة على ما قيل، وقيل: مشتق من العِلم، وذلك على تفصيل مذكور في كتب اللغة.
فالعولمة كالرباعي في الشكل، فهو يشبه "دحرجة" المصدر، لكن "دحرجة" رباعي منقول، أمَّا "عولمة" فرباعي مخترع، إن صح التعبير،وهذه الكلمة بهذه الصيغة الصرفية لم ترد في كلام العرب، والحاجة المعاصرة قد تفرض استعمالها، وهي تدل على تحويل الشيء إلى وضعية أخرى، ومعناها: "وضع الشيء على مستوى العالم"، وأصبحت الكلمة دارجة على ألسنة الكتاب والمفكرين في أنحاء الوطن العربي([14])، ويرى الدكتور "أحمد صدقي الدجاني" أن العولمة مشتقة من الفعل "عولم"، على صيغة فوعل، واستخدام هذا الاشتقاق يفيد أن الفعل يحتاج لوجود فاعل يفعل، أي أنَّ العولمة تحتاج لمن يعممها على العالم([15]).
وننَّبهإلى أنَّ مجمع اللغة العربية بالقاهرة قرَّر إجازة استعمال العولمة بمعنى: جعل الشيء عالميًا([16])، والعولمة ترجمة لكلمة Mondialisationالفرنسية، بمعنى جعل الشيء على مستوى عالمي، والكلمة الفرنسية المذكورة إنَّما هي ترجمة “Globalisation” الإنجليزية، التي ظهرت أولًا في الولايات المتحدة الأمريكية، بمعنى تعميم الشيء، وتوسيع دائرته ليشمل الكل.
فهي إذًا مصطلح يعني جعل العالم عالمًا واحدًا، موجهًا توجيهًا واحدًا، في إطار حضارة واحدة، ولذلك قد تُسمى الكونية أو الكوكبة([17])، ومن خلال المعنى اللغوي يمكننا أن نقول بأنَّ العولمة إذا صدرت من بلد أو جماعة؛ فإنها تعني: تعميم نمط من الأنماط التي تخص ذلك البلد أو تلك الجماعة، وجعله يشمل الجميع أي العالم كله([18]).
جاء في المعجم العالم الجديدويبستر ” WEBSTER“ أنَّ العولمة “Globalisation”هي: إكسابُ الشيء طابعَ العالمية، وبخاصة جعل نطاق الشيء، أو تطبيقه، عالميًا([19]).
العولمة إذًا من حيث اللغة كلمة غريبة على اللغة العربية، ويُقصد منها عند الاستعمال ـ اليوم ـ تعميم الشيء، وتوسيع دائرته، ليشمل العالم كله.
ومنالجدير بالذكر أن تعبير "العولمة" في التداول السياسي قد طُرح من قبل كتاب أمريكانفي السبعينات، وبالتحديد من كتاب "ماك لولهان وكينتين فيور": حول "الحرب والسلام فيالقرية الكونية"، وكتاب "بريجسكي": بين عصرين "دور أمريكا في العصرالإلكتروني"([20]).
العولمة اصطلاحًا.
كثرت التعاريف التي توضح معنى العولمة، نذكر هنا بعضًا منها:
ومن هذه التعريفات:
* يقول "جيمس روزانو"، أحد علماء السياسة الأمريكيين عن العولـمة: (إنَّها العلاقة بين مستويات متعددة، لتحليل الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، والأيديولوجيا، وتشمل: إعادة الإنتاج، وتداخل الصناعات عبر الحدود وانتشار أسواق التمويل، وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول، نتيجة الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة)([21]).
* الكاتبالأمريكي الشهير "وليم جريدر" في كتابه الصادر عام 1977م بعنوان "عالم واحد..مستعدون أم لا؟"، وصف العولمة (بأنها آلةعجيبة نتجت عن الثورة الصناعية والتجارية العالمية، وأنَّها قادرة على الحصاد، وعلىالتدمير، وأنَّها تنطلق متجاهلة الحدود الدولية المعروفة، وبقدر ما هي منعشة، فهيمخيفة، فلا يوجد من يمسك بدفة قيادتها، ومن ثمَّ لا يمكن التحكم في سرعتها ولا فياتجاهاتها).
* (نظام عالمي جديد يقوم على العقل الإلكتروني، والثورة المعلوماتية القائمة على المعلومات والإبداع التقني غير المحدود، دون اعتبار للأنظمة والحضارات والثقافات والقيم، والحدود الجغرافية والسياسية القائمة في العالم)([22]).
* (إنها حرية حركة السلع، والخدمات، والأيدي العاملة، ورأس المال، والمعلومات، عبر الحدود الوطنية والإقليمية)([23]).
* ويعرفها الدكتور "مصطفى محمود" فيقول: (العولـمة مصطلح بدأ لينتهي بتفريغ الوطن من وطنيته، وقوميته، وانتمائه الديني والاجتماعي والسياسي، بحيث لا يبقى منه إلاَّ خادم للقوى الكبرى)([24]).
* العولمة هي: (العملية التي يتم بمقتضاها إلغاء الحواجز بين الدول والشعوب، والتي تنتقل فيها المجتمعات من حالة الفرقة والتجزئة إلى حالة الاقتراب والتوحد، ومن حالة الصراع إلى حالة التوافق، ومن حالة التباين والتمايز إلى حالة التجانس والتماثل، وهنا يتشكل وعي عالمي وقيم موحدة تقوم على مواثيق إنسانية عامة)([25]).
والمواثيق الإنسانية الواردة في هذا التعريف، هي المواثيق التي يصنعها الغرب الكافر، وأساسها نظرة علمانية مادية للوجود لتحقيق مصالحه الخاصة، ثم تصدر للعالم على أنها مواثيق إنسانية لصالح البشرية، ولا بأس أن تصدر بها القرارات الدولية من هيئة الأمم المتحدة، باعتبارها مؤسسة حامية للحقوق الإنسانية.
* (هي تعاظم شيوع نمط الحياة الاستهلاكي الغربي، وتعاظم آليات فرضه سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا وعسكريًا، بعد التداعيات العالمية التي نجمت عن انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط المعسكر الشرقي)، أو هي (محاولة لفرض الفلسفة البراجماتية النفعية المادية العلمانية، وما يتصل بها من قيم وقوانين ومبادئ وتصورات على سكان العالم أجمع) ([26]).
* هي (العمل على تعميم نمط حضاري، يخص بلدًا بعينه، هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات على بلدان العالم أجمع)، وهي أيضًا أيديولوجيًا (تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم، وأمركته)([27])، أي محاولة الولايات المتحدة إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها الاقتصادية والسياسية، ويتركز أساسًا على عمليتي تحليل وتركيب للكيانات السياسية العالمية، وإعادة صياغتهاسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وبشريًا، وبالطريقة التي تستجيب للمصالح الاستراتيجية للولاياتالمتحدة الأمريكية.
* العولمة: منظومة من المبادئ السياسية والاقتصادية، ومن المفاهيم الاجتماعية والثقافية، ومن الأنظمة الإعلامية والمعلوماتية، ومن أنماط السلوك ومناهج الحياة، يُراد بها إكراه العالم كلِّه على الاندماج فيها، وتبنِّيها، والعمل بها، والعيش في إطارها([28]).
* العولمة هي الحالة التي تتم فيها عملية تغيير الأنماط، والنظم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ومجموعة القيم والعادات السائدة، وإزالة الفوارق الدينيةوالقومية والوطنية، في إطار تدويل النظام الرأسمالي الحديث، وفق الرؤية الأمريكية المهيمنة، والتي تزعم أنها سيدة الكون، وحامية النظام العالمي الجديد.
ويقول الدكتور "فؤاد بن عبد الكريم"([29]): (تعاريف ومفاهيم العولمة يمكن تقسيمها وإدراجها في أربعة اتجاهات:
اتجاه يراها: حقبة تاريخية لفترة زمنية معينة.
وثانٍ يراها: مجموعة تجليات لظاهرة اقتصادية.
وثالث يراها: هيمنة وتسلطًا للقيم الأمريكية.
ورابع يراها: ثورة تكنولوجية واجتماعية.
أما عن تعريف الاتجاه الأول للعولمة فقد عرفها بأنها: (ظاهرة تاريخية، تبلورت ـ علميًا ـ مع نهايات القرن العشرين، مثل ما كانت القومية ظاهرة تاريخية قد تبلورت علميًا مع نهايات القرن التاسع عشر).
تعريف الاتجاه الثاني للعولمة: (مصطلح العولمة Globalization) يجعل الذهن يتجه إلى الكونية ـ أي إلى الكون الذي نعيش فيه ـ وإلى وحدة المعمور من الكوكب الذي نعيش عليه).
تعريف الاتجاه الثالث للعولمة: (اتجاه الحركة الحضارية نحو سيادة نظام واحد، تقوده في الغالب قوة واحدة، أو بعبارة أخرى استقطاب النشاط السياسي والاقتصادي في العالم حول إرادة مركز واحد من مراكز القوة في العالم، والمقصود ـ طبعًا ـ قوة الولايات المتحدة الأمريكية).
تعريف الاتجاه الرابع للعولمة: (زيادة درجة الارتباط المتبادل بين المجتمعات الإنسانية، من خلال عملية انتقال السلع، ورؤوس الأموال، وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات).
ثم يخلص في النهاية إلى أن تعريف العولمة هو (التداخل الواضح في أمور الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والثقافة، والسلوك، دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة، أو انتماء إلى وطن محدد، أو لدولة معينة، دون حاجة إلى إجراءات حكومية).
والشيء الذي لابد من الوقوف عنده كثيرًا، هو أنَّ العولمة كظاهرة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، ترتبط أساسًا بالمفهومالاقتصادي الرأسمالي ـ وفق الرؤية الأمريكية ـ في مراحله المتطورة، إن لم يكن في أعلى حالات تطوره، أو لنقلسيطرته على الاقتصاد العالمي، وبالتالي السيطرة على كافة أشكال ومظاهر التطورالإنساني.
المبحث الثالث ـ عناية الشريعة بالأسرة وحمايتها
أولى الإسلام عناية فائقة بالأسرة؛ لحمايتها من التفكك، فهي العماد الأول للمجتمع المسلم، والمحضن التربوي الأول الذي يتخرج منه الفرد النافع للمجتمع ولنفسه ولوطنه.
وحتى لا يحدث تلاعب في هذا الاستقرار الأسري؛ حث الإسلام على استمرار رابطة الزوجية، وكره قطعها من غير مبرر، وشرع لذلك جملة تشريعات، منها على سبيل المثال:
1- رغب الإسلام في الزواج بذات الدين، وحث الأزواج على حسن الاختيار، وفي الحديث: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج))([30]).
2- كما حث القرآن على تزويج من لا زوج له؛ لأنه طريق الستر والصلاح، وتكوين الأسرة والاستقرار، قال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[النور: ٣٢]، وفي هذه الآية الكريمة أيضًا وعد من الله تعالى لمن أراد الزواج لإعفاف نفسه وزوجه؛ أن الله تعالى سيغنيه من فضله.
3- حث كل واحد من الزوجين على إحسان العلاقة بالآخر، والقيام بواجبه تجاهه؛ مما يقلل فرص الشقاق، ويزرع الحب والمودة في قلب كل واحد منهما تجاه الآخر.
4- حث على صبر كل واحد من الزوجين على ما يلاقيه من الآخر، مادام ذلك ممكنًا، ومادام سبيلًا لاستمرار هذه العلاقة بشكل مقبول، وأثار في نفوس الأزواج الرغبة في دوام هذه الرابطة، بفتحه نافذة المستقبل الواعد الزاهر، الذي قد يترتب على هذه العلاقة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: ١٩].
5- شرع العدة بعد الطلاق، وهي فترة يحق للزوج فيها مراجعة زوجته بدون عقد جديد، فعسى أن تحن نفسه إلى مراجعة زوجته وتحركه ذكرى الأيام الخوالي والذكريات السعيدة وما إلى ذلك، كما أنه قد يكتشف أسبابًا للبقاء مع زوجته تفوق تلك التي من أجلها قطع هذا العلاقة.
6- كما شرع التحكيم؛ وهو أن تتدخل أسرتا الزوجين إذا توترت العلاقة بينهما، فيبعثون حكمًا من أهله، وحكمًا من أهلها؛ لدراسة أسباب الشقاق، والبحث عن سبل لتجاوزها، لإعادة سفينة الأسرة إلى بر الأمان، (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)[النساء:3٥].
7- فإذا ما استمر الخلاف بين الزوجين، واستعصى الوفاق على الحكمين، عمد الإسلام إلى التفريق بين الزوجين، على أسس تضمن لكلٍّ حقوقه قِبَل الآخر، وتضمن للأولاد أنسب مستوى من العيش الطيِّب، بعد ما استحال عيشهم في كنف الأسرة وتحت رعاية الوالدين معًا، فبيَّن أسس الحضانة، وأسس النفقة والولاية، وغير ذلك من الأحكام، قال تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا)[النساء: ١٣٠]، وقال جل شأنه: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [الطلاق: ٦].
وقال جل شأنه: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[النساء: ٢٠].
8- ومن الأحكام التي شرعها الله تعالى في الإسلام لضمان حقوق كل من الزوج والزوجة؛ قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[البقرة: ٢٢٨].
فكما أن على المرأة واجبات تجاه الرجل وهي الطاعة في المعروف؛ فكذلك على الرجل رعاية زوجته، وحمايتها، وحفظها، والقيام بشئونها، وفي الحديث ((واستوصوا بالنساء خيرًا))([31]).
9- جعل للرجل الحق في الطلاق مرتين، فإن طلق الثالثة؛ سدَّ أمامه هذا الطريق، وحرمت عليه المرأة حتى تتزوج غيره: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: ٢٢٩].
10- أنزل الله تعالى سورة كاملة في القرآن الكريم، ضمنها كثيرًا من أحكام الزواج، وحقوق الزوجين، وهي سورة النساء، بل إن الله تعالى سمى عقد النكاح بالميثاق الغليظ نظرًا لأهميته، وعظم شأنه، وما يترتب عليه، قال تعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)[النساء: ٢١].
11- أقام الإسلام الزواج بين الزوجين على أساس الرغبة التامة، والرضا الكامل من كل منهما للآخر، وذلك على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية، من إغفال لرضاهما، وإهدار لرغباتهما، وعلى خلاف ما هو الأمر عليه في بعض مجتمعاتنا الحاضرة، من إجبار الشاب على الزواج ممن لا يرغب فيها، وإجبار الشابَّة على الزواج ممن لا تطمع في مثله، مما تهدَر معه إنسانية الإنسان وكرامته وحريته، وتضيع في ثناياه سعادته، وتتولد منه المشكلات الأسرية، والرزايا التي تهدم الأسر، وتشرد الأولاد وتمزِّق أواصر المجتمع، وتقلب الأمة الواحدة إلى أمم متفرقة متناحرة، وهو ما يأباه الإسلام ويُنَفِّر منه، قال سبحانه: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: ٩٢].
12- أقام الإسلام الحياة الزوجية على أسس من المودة والألفة بين الزوجين، والتكريم المتبادل بينهما، والتعاون على رعاية الأسرة، فلا تَجَبُّر من الزوج على زوجته وأولاده، ولا تمرد من الزوجة على زوجها، ولكن محبة وتعاون، وما أجمل التعبير القرآني الذي قرر هذا المعنى السامي.
وهو قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[الروم: ٢١].
13- اهتم الإسلام برعاية الأولاد، والإنفاق عليهم، وحسن تربيتهم، والاهتمام بعقيدتهم وثقافتهم وحبهم لله تعالى، وتنفيذهم لأحكامه سبحان، فأوجب النفقة على الأب، والحضانة على الأم، وأوجب تعليمهم القرآن الكريم، وأَمْرَهم بالصلاة والصوم وجميع العبادات الإسلامية، قال r: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه))([32])، وقال u: ((كلُّكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته))([33]).
وقال جلَّ من قائل: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق: ٧].
14- نظَّم الإسلام أمور الأسرة المالية، فبيَّن من تجب عليه النفقة، ومن تجب له النفقة، وبيَّن حدودها وطريقة استيفائها، وأنها واجب من الواجبات الدينية والقضائية، وليست صدقة فيها مِنَّة، وأنها واجبة للزوجة والوالدين، وإن كانوا مخالفين للولد في الدين، وتجب للأولاد، ماداموا صغارًا فقراء محتاجين للنفقة، وتجب لجميع الإخوة، والأخوات، والأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات، ومن وراءهم، ماداموا فقراء عاجزين عن الكسب، وذلك بتنظيم دقيق عادل، وهكذا تستغني الأسرة بأفرادها عن الحاجة إلى من سواهم أو وراءهم، مما يوفر لها الكرامة، ودوام الاستمرار في العيش الرغيد.
وبذلك يكون التشريع الإسلامي قد رافق الأسرة في مسيرتها، ورعاها منذ لحظة التفكير في إنشائها إلى لحظة إنهائها، مرورًا بأحوالها وشئونها مدة قيامها، مراعيًا في ذلك كله قواعد العدالة، والأخلاق، والمثل الاجتماعية، وآخذًا بعين الاعتبار العواطف الإنسانية، والطاقة البشرية، والنزوات الجسدية، والخلجات النفسية، مقدرًا لكل منها قدرها، في إطار من الموضوعية الشاملة، بما يؤمِّن للأسرة أقوى رباط، وأسمى إطار، يلفُّها، ويقوِّيها، ويشدُّ من أزرها، حتى تقوم بواجبها الاجتماعي والإنساني، في الإنجاب والتربية واستمرار الجنس، في ظل عبادة الله تعالى وشكره على نعمه.