بقلم خالد كساب -------- جريدة الدستور
المكان .. شارع قصر النيل أمام ممر الجريون .. الزمان .. ليلة وقفة عيد الأضحى الماضى .. الحدث .. هذا هو ما إتجهت إلى الزحمة التى كانت تملأ الممر لمعرفته ...
كان الممر مزدحماً تماماً ببنى آدمين بالهبل يتخذون فى وقفتهم شكل الدائرة التى يوجد فى مركزها شىء ما لا أعرفه .. الجميع يرفعون موبايلاتهم و يصورون هذا الذى يحدث فى منتصف الدائرة البشريه والذى لا أزال مثلكم تماماً لا أعرف عنه شيئاً .. تقدمت إلى الممر بدافع من الفضول .. إخترقت الزحام فى سبيلى إلى إشباع هذا الفضول الفطرى الذى نولد به و الذى بسببه دفع أبانا آدم و أمنا حوا الثمن غالياً ذات تلك الظهيرة السرمدية التى لهطا فيها تفاحة الرغبة لتظهر لهما سوءاتهما و تصبح السماء مكاناً غير مناسباً لما سوف يحدث بينهما بعد ذلك .. و بناءً عليه ينتقل مقر معمل التجربة البشرية من السماء .. ذلك المكان الهادىء و الروحانى و الذى لا ينبغى له أن يتلوث برغباتنا البشرية المنحطة .. إلى الأرض .. ذلك الكوكب الملوث والمنحط إلى الدرجة التى تسمح لكائنات ملوثة ومنحطة و مخطئة و متعاقبة مثلنا بأن تحيا و تتكاثرفيه كعقاب نهائى و أزلى و سرمدى .. أثناء إختراقى للزحام كان إهتمام الواقفين يزداد مما يدل على أن الأمور تتصاعد فيما يخص ما يحدث فى منتصف الدائرة البشرية .. هذا الذى لم يعد متبقياً أمامى على معرفته سوى إختراق صفين آخرين من البشر أصبح بعدها فى المقدمة .. أمنح الواقف أمامى كتفاً قانونياً أخيراً مسموح به فى مثل تلك الإزدحامات .. ثم أخيراً .. ها أنا أقف وجهاً لوجه أمام الحدث الذى جمع كل هؤلاء البشر لمشاهدته و تصويره بالموبايلات على مثل ذلك النحو .. كانت هناك بقرة فى منتصف تلك الدائرة البشرية .. ترقد مسجاه على جانبها ليس لسبب آخر سوى أنها لا تملك الآن سوى ذلك الوضع الإجبارى الأخير .. بجانبها على الأرض تنام رقبتها المفصولة عن جسدها ما عدا جزء يسمح بالعبور الأخير للروح فى طريقها للخروج من الجسد .. عينى البقرة لا تزالان تتحركان بداخل محجريهما فى شكل أقرب إلى التساؤل عما يحدث بالظبط منه إلى الحركه الطبيعية للعين .. من المؤكد أنها كانت تتساءل بينها و بين الجزء الذى لا يزال متبقياً لها من نفسها عن كل تلك الموبايلات المصوبة نحوها فى فرحة لا تناسب ما تمر به من لحظات صعبه .. من المؤكد أنها كانت تتساءل عن السبب الذى يجعل بشراً ما تعرفهمش يودون الإحتفاظ بكليب لها و هى تموت .. لم تسمح لها ماسورة الدم المندفعة من رقبتها المذبوحة بالتعمق فى الأسئلة أكثر من ذلك .. كانت قواها قد بدأت تخور .. وكان صوت الزحام و التهانى التى أخذ الواقفون يهنئون بعضهم البعض بها قد بات مرتفعاً و صاخباً .. إلا أنى كنت قادراً على تمييز صوت حشرجاتها بوضوح .. صوت التمزق الأخير لغلالة الروح الحريرية الناعمة أثناء عبورها من على خشبة مسامير الحياه الجسدية المتعارف عليها .. كانت أقدام الواقفين فى الصف الأمامى قد بدأت تتراجع إلى الخلف قليلاً إثر إتساع بحيرة الدم المحيطة بالبقرة .. حركة أخيرة و واهنة وضعيفة تتحركها عين البقرة تلمح خلالها بعض الواقفين يغمسون كفوفهم فى دمائها التى تملأ الأرضية من حولها ليلطعونها على الحائط بعد ذلك كذكرى لتلك المناسبة ولهذا الحدث .. قد يكون هذا هو آخر ما شاهدته أعين البقرة أثناء حركتها الأخيرة لأعلى .. تلك الحركة التى صحبتها فلفصة أخيرة للأرجل .. ثم حشرجة وداع .. تصمت بعدها البقرة للأبد .. بينما ينهمك الواقفون فى مشاهدة ما كانوا قد صورونه بموبايلاتهم للتأكد من أنه يصلح لرفعه على الفاس بوك ليشاهد من لم يكن واقفاً تلك اللحظات الأخيرة فى حياة بقرة .. بقرة ذنبها الوحيد فى تلك الحياه أنها .. قد خلقت بقرة !
قبل أن يتهمنى أحدكم بأننى نباتى دسيسة .. إسمحولى أن أؤكد لكم أنى مثلكم تماماً .. فمى ملطخ بدماء الكثير و الكثير من الفراخ و الأبقار التى شاءت لها الأقدار أن يصبح مصيرها النهائى على هيئة وجبة قد أتناولها أثناء مشاهدة فيلم فى التليفزيون مثلاً .. و قبل أن يتهمنى أحدكم بأننى أشكك فى طقس ذبح الأضحية .. إسمحولى أن أؤكد لكم على أنه .. حاشا لله .. إطلاقاً .. فالأضحية لا تختلف عما يفعله البشر فى أى حته على ظهر ذلك الكوكب على مدار 365 يوم فى السنه .. البشر جميعاً يذبحون الحيوانات و يأكلونها طوال العام .. و ليس فى عيد الأضحى فقط .. و كل ما يفعله عيد الأضحى من إضفاء للإختلاف على عملية ذبح بقرة أو خروف إنما يكمن فى المغزى و العبرة و الفرصة التى تسنح أمام الكثيرين ممن لا يعرفون شكل اللحمة من إخوتنا الفقراء بالتعرف عليها أخيراً قبل الرحيل عن تلك الدنيا الفونيا .. و تلك بالتأكيد هى قمة الرقى و التحضر و الأخلاق .. أن يشعر البشر ببعضهم البعض .. بل ربما كان هذا هو السبب الرئيسى الذى من أجله خلقنا فى تلك الحياه .. أن نشعر ببعضنا البعض .. و قبل أن يتهمنى أحدكم بأننى أسعى إلى ضرب كرسى فى كلوب فرحتكم بالعيد و بطقس الأضحية و الذبح .. إسمحولى أن أؤكد لكم على أنه .. لأ و الله .. فلتضحوا و لتذبحوا براحتكم طالما سمحت لكم ظروفكم بذلك .. إذن .. أين هى المشكلة و لماذا كل تلك المندبة اللى عملتهالكو فى مقدمة المقال بسبب مشهد بقرة مذبوحة مثلها مثل جميع رفيقاتها على ظهر ذلك الكوكب ؟!
ما أتحدث عنه هنا هو .. إحترام لحظة خروج روح من جسد كائن حى .. ما أتحدث عنه هنا هو تلك القشعريرة التى قد تصيبكم إذا ما رأيتم قطة دهستها سيارة مسرعة و هى تلفظ أنفاسها الأخيرة على جانب الطريق .. أو شجرة تهتز أرض الغابة لها أثناء لحظة سقوطها عليها إثر قطعها بمنشار كهربائى .. ما أتحدث عنه هنا هى لحظات أخيرة فى حياة كائن حى .. أياً كان نوع ذلك الكائن .. لحظات أخيرة ينبغى علينا إحترامها .. فلتذبحوا كما شئتم .. و لكن بدون التحلق حول الذبيحه أثناء التطليع الأخير للروح .. بدون تسليط كاميرات موبايلاتكم على لحظات حشرجاتها الأخيرة و إغماضة أعينها النهائية عن ذلك العالم القاسى .. بدون تلطيخ كفوفكم بدم الذبيحة من أجل عمل تاتو للذكرى على الحوائط .. فنحن نذبح الحيوانات المسموح لنا بذبحها من أجل أكل لحومها .. و هذا مقبول .. و نحن نذبح فى عيد الأضحى تحديداً لإحياء ذكرى إفتداء سيدنا إسماعيل بكبش .. و هذا أيضاً مقبول .. أما عدم إحترام لحظات ذبائحنا الأخيرة .. فهذا هو غير المقبول .. إنها أولاً و أخيراً روح .. روح بصدد رحلة العودة إلى خالقها .. ألا تستحق رحلة مثل تلك منا قليلاً من الإحترام و التبجيل؟!
بعدها بيوم كنت أعبر من نفس الممر .. كان خالياً تماماً من الناس .. وكانت الأرض قد تم غسلها جيداً .. إلا أن بعض آثار للدماء فى بعض الفراغات بين البلاط كانت لا تزال واضحة .. لتذكرنى بذلك المسرح الرومانى الذى كان منصوباً إمبارح زى دلوقتى فى نفس المكان من أجل الإستمتاع بمشاهدة بقرة بريئة و مذبوحه تلفظ أنفاسها الأخيرة .. يا سلام يا بشر .. دا إيه الإنسانية دى كلها !!