عوامل الظهور
ـ اشتد الخلاف في زمن الدولة الاموية بين اهل الرأي وأهل الحديث وكانت الدولة الاموية تدعم في ذلك اهل الحديث، واستمر هذا الخلاف حتى سقوط الامويين وقيام الدولة العباسية التي اخذت تعتمد الموالي وتقربهم حتى تبلور تيار الحنفية، والتف حوله الموالي واصبح المذهب الرسمي للدولة العباسية.
ـ اخذت الدولة العباسية تغدق بالعطاء والهدايا على اهل الرأي فحاول بعض علماء هذا الاتجاه تأييد وجهة نظر الدولة ودعمها في بروز هذا التيار (الحنفية) ونشوئه.
ـ مؤسس هذا المذهب هو ابا حنيفة حيث خرج على الناس بمذهب جديد، فيه حرية العقل واستعمال الرأي والقياس، وقد تميز بمقدرة فائقة الاستنباط فأحدثت افكاره تياراً استقطب الكثير من المؤيدين له.
النشأة والتطور
ـ حاول العباسيون اضفاء طابع الانتماء الديني على دولتهم والايحاء للراي العام بأنهم أحق بالامر من خصومهم الامويين فاظهروا الاتصال الوثيق بين الدين والدولة وكونوا من احكام الشريعة دستوراً ونظاماً تسير عليه الدولة سيراً صورياً، فقربوا العلماء وجعلوا القضاء بيد أهل الرأي من أهل العراق حتى ولي ابو يوسف القضاء وهو تلميذ أبي حنيفة فكانت للمذهب الحنفي حظوة واسعة في الشهرة والانتشار.
ـ ان وجود رجالات حملوا على عاتقهم نشر المذهب أمثال ابي يوسف قاضي القضاة في زمن الرشيد ساعد على انتشار هذا المذهب انتشاراً واسعاً، حيث تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء العباسيـين منذ ايام المهدي ثم الهادي ثم الرشيد.
ـ حِظيَ الفقه الحنفي بمحمد بن الحسن الشيباني الذي دوّن فقه هذا المذهب وسجله، وكذلك محمد بن شجاع الثلجي الذي كان يحتج بفقه الحنفية واظهر علله وقواه بالحديث، فساعد هذان الامران على انتشار هذا المذهب على صعيد العالم الاسلامي.
الافكار والمعتقدات
اعتمد هذا المذهب افكاراً ومعتقدات من أهمها :
ـ الاصول عند الحنفية هي : « الكتاب والسنة واجماع الصحابة والقياس والاستحسان والعرف ».
ـ اهم مصادر التشريع عندهم هو الاخذ بالقياس حتى عرفوا به وتميزوا عن بقية المذاهب.
ـ زعموا : ان الايمان هو المعرفة بالله ورسوله والاقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير.
ـ قالوا : بجواز قبول الجزية من عبدة الاصنام مستثنين العرب منهم.
ـ افـتى ابو حنيفة بوجوب نصرة زيد بن علي بن الحسين (ع) وحمل المال اليه والخروج معه على اللص المتغلب المسمى بالامام والخليفة.
ـ أغلقوا باب الاجتهاد مكتفين باجتهاد الائمة السابقين وصار عصرهم عصر تقليد واختيار من كتب السابقين.
ـ قالوا بعدم جواز الحجر على السفيه ولا على ذي الغفلة لانهم يرون ان الشخص ببلوغه عاقلاً سواء كان سفيهاً ام غير سفيه فإنه قد بلغ حد الانسانية المستقلة.
ـ ذهب فقهاؤهم الى انه لايجوز للجنب مس التوراة وهو محدث.
ـ قالوا : بجواز الصلاة خلف الفاسق وغيره.
ـ قالوا في الكفر والشرك هما اسمان واقعان على معنيين وان كل شرك كفر وليس كل كفر شركاً، وقالوا : لاشرك الا من جعل لله شريكا، واما اليهود والنصارى فكفار لامشركون وسائر الملل كفار مشركون.
ـ كان من مبدئهم اعمال عقولهم فيما اذا روي في المسألة قولان او اكثر في الصحابة فيختارون منها أعدلها أو اقربها الى الاصول العامة وعدم الاعتداد بأقوال التابعين الا ان يوافقوا اجتهادهم.
ـ جاهروا في العراق بوجوب نصرة ابراهيم اخي ذي النفس الزكية بل ان الامر وصل بهم الى ان ثبطوا بعض قواد المنصور عن الخروج لحرب ابراهيم.
ـ قالوا : ان للمرأة الولاية الكاملة في الزواج فكما ان الولاية المالية تثبت لها كاملة فكذلك ولاية الزواج، ثم انهم قرروا المساواة بين الرجل والمرأة، فكما ان له الولاية الكاملة في شأن الزواج فلها ايضا الولاية على نفسها في شأن الزواج.
ـ قالوا انه لايكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد او فتيا، وان كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى انه الحق، فهو مأجور على كل حال، ان اصاب الحق فله اجران وان أخطأ فأجر واحد.
ـ كان لهم في الحديث مسلك خاص وهو التشديد في قبول الحديث والتحري عنه وعن رجاله حتى يصح، وكانوا لايقبلون الخبر عن رسول الله الا اذا رواه جماعة عن جماعة.
ـ من الامور الظاهرة في فقه مذهب الحنفية (الحيل الشرعية)، وقد اصبحت باباً واسعاً من ابواب هذا الفقه في مذهبهم حتى وضعوا فيما بعد حيلاً للهروب من كل الالتزامات.
أبرز الشخصيات
1 ـ النعمان بن ثابت (ابو حنيفة)
2 ـ ابو يوسف (قاضي القضاة)
3 ـ محمد بن الحسن الشيباني.
4 ـ محمد بن شجاع الثلجي.
5 ـ زفر بن هذيل.
6ـ محب الدين بن محمد الهندي.
7 ـ الحسن بن زياد اللؤلئي الكوفي.
8 ـ جمال الدين الحصيري الحنفي.
الانتشار ومواقع النفوذ :
انتشر المذهب الحنفي في العراق وفي اغلب الاقطار الاسلامية بشكل متفاوت، فتركية والبانية وسكان بلاد البلقان وتركستان (بخارى) هم على المذهب الحنفي بصورة غالبة، وفي افغانستان يؤلفون نصف أهل السنة بل هذا المذهب هو اوسع المذاهب الاسلامية انتشاراً علىالاطلاق.
أحداث ووقـائع :
ـ كان للحنفية موقف عداء معروف من الامويين حتى ان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري امير العراقَيْنِ قد استقدم ابا حنيفة لكي يلي القضاء بالكوفة ايام مروان بن محمد آخر ملوك بني امية فأبى عليه فضربه مئة سوط وعشرة، كل يوم عشرة سياط، وهو على الامتناع فلما رأى ذلك خلى سبيله.
ـ يروى انه لما خرج زيد بن علي بالكوفة على هشام بن عبد الملك قال ابو حنيفة : « ظاهى خروجه خروج رسول الله يوم بدر » فقيل له : لم تخلفت عنه ؟ قال : حبسني عنه ودائع الناس، عرضتها على ابن ابي ليلى فلم يقبل فخفت ان اموت مجهلاً.
ـ في العصر العباسي استدعى المنصور ابا حنيفة من الكوفة لانه اتهم بالتشيع لابراهيم اخي محمد ذي النفس الزكية فحبسه خمسة عشر يوماً ثم سمه فمات.
من ذاكرة التاريخ :
ـ قال الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) لابي حنيفة : يانعمان ما الذي تعتمد عليه فيما لم تجد فيه نصا من كتاب الله ولا خبراً عن رسول الله (ص) ؟ فقال : أقيسه على ماوجدت من ذلك، قال الامام الصادق (ع) : ان اول من قاس ابليس فأخطأ اذ أمره الله بالسجود لآدم (ع) فقال : « انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين »، فرأى النار اشرف من الطين فخلده ذلك في العذاب المهين، أي نعمان ايهما اطهر البول ام البول ؟ قال : المني، قال قد جعل الله في البول الوضوء وفي المني الغسل ولو كان يحمل على القياس لكان الغسل في البول.
وإيهما اعظم عند الله، الزنى ام قتل النفس ؟ قال قتل النفس، قال الامام الصادق (ع) : قد جعل الله في قتل النفس شاهدين وفي الزنى اربعة ولو كان على القياس لكان الاربعة شهداء في القتل لانه اعظم، وايهما اعظم عند الله الصلاة ام الصوم ؟ قال الصلاة، قال الامام : فقد امر رسول الله (ص) الحائض ان تقضي الصوم ولاتقضي الصلاة ولو كان على القياس لكن الواجب ان تقضي الصلاة، فاتق الله يانعمان ولاتقس.
جاء جماعة من اهل المدينة ابا حنيفة ليناظروه في القراءة خلف الامام (وابو حنيفة يقول بعدم قراءة المأموم)، فقال لهم لايمكنني مناظرة الجميع، فولوا الكلام اعلمكم فأشاروا الى واحد، فقال : هذا أعلمكم ؟ والمناظرة معه كالمناظرة معكم ؟ قالوا : نعم، قال : والحجة عليه كالحجة عليكم ؟ قالوا نعم، قال : ان ناظرته لزمتكم الحجة لانكم اخترتموه فجعلتم كلامه كلامكم، وكذا نحن اخترنا الامام فقراءته قراءتنا