إبراهيم ، عبد الستار : السعادة الشخصية في عالم مشحون بالتوتر وضغوط الحياة . كتاب الرياض رقم 132 ، مؤسسة اليمامة الصحفية بالرياض ، الرياض 2005 .
عرض للكتاب من إعداد الأستاذ الدكتور عبد الله عسكر رئيس قسم علم النفس- جامعة الزقازيق :
صدر الكتاب عن مؤسسة اليمامة الصحفية في سلسلة كتاب الرياض رقم (132) عام 2005 وهو من الكتب المميزة التي تتناول موضوعاً في غاية الأهمية بأسلوب واضح وسهل يجعل منه مرشداً شخصياً لقارئه، فضلا عن أنه يفتح أمام المتخصصين آفاقا معرفية جديدة. وهكذا عودنا د. عبد الستار إبراهيم على الإبحار في محيطات النفس البشرية بقارب شراعي متقن الصنع، يعرف الطريق إلى آفاق هذه النفس البشرية وما يصارعها من أمواج ورياح وما يعتريها من ضغوط خارجية تسهم شخصيته في التفاعل معها ليجد نفسه فريسة للقلق والاكتئاب والهموم دون أن يعرف أن الخلاص بيده هو. ولهذا جاء عنوان الكتاب " السعادة الشخصية " بمعنى أن التفسيرات التي يمنحها الإنسان للظواهر التي تجلب التعاسة ليست في حقيقتها تعيسة، فالسماء الزرقاء الداكنة ليست تعيسة ولكن المتشائم يرى فيها كآبة والمتفائل يرى فيها حياة وتأمل، فوفقاً لإدراكنا يكون مزاجنا الشخصي. فنحن لا نستطيع أن نغير المناخ أو الظواهر الكونية المحيطة بقدر ما نستطيع أن نغير في نظرتنا للأمور.
وصدق الله العظيم إذ يقول " ولقد خلقنا الإنسان في كبد " فكيف تكون المكابدة هي الأرض التي نزرع فيها أشجار السعادة كي تتجاوز أشواك التعاسة ؟ هذا ما يدخل بنا إلى آفاق هذا الكتاب القيم الذي يطرح إجابات عن كثير من الأسئلة مثل " لماذا ينجح البعض في الحياة ويفشل البعض الآخر بالرغم من تكافؤ الظروف العقلية والاجتماعية المحيطة بهم ؟
هل بالإمكان حقاً أن نحقق أحلام الأفراد في تحقيق ما يصبون إليه من سعادة وفاعلية ؟
وما الذي علينا أن نفعله كمعالجين نفسيين أو خبراء في الصحة النفسية لتخفيف المعاناة البشرية من الآلام التي تعوق تطورهم ؟ وما الصعوبات التي تواجه الفرد لتحقيق هذا الهدف الجليل من أهداف الصحة النفسية ؟ وكيف نعينه على التغلب على هذه الصعوبات ؟" ( الكتاب ص 6-7 ) .
هذه الأسئلة نجد لها إجابات فنية واعية تأتي من تراكم الخبرة المعرفية والعيادية للمؤلف، في الوقت الذي يحجبها العديد من الممارسين عن العامة كي يتربحوا منها من خلال عملهم العيادي، وواضح أن في جعبة المؤلف الكثير والكثير، وما هذا الدليل التشخيص والعلاجي والوقائي إلا حرف من بحور علمه بالنفس البشرية.
ينبهنا هذا الكتاب إلى الشيوع الوبائي لضغوط الحياة والتصدي لفهمها وتحديد أسباب هذا الشيوع وأخطاره وخاصة الوصول إلى درجات خطيرة من الاضطرابات النفسية والعقلية.
ويقع الكتاب في400 صفحة وينقسم إلى 19 فصلاً مقسمة على ثلاثة أبواب حيث يعرض في الباب الأول لعدد من الحقائق والمعلومات والمفاهيم المرتبطة بالضغوط النفسية وعدد من النماذج والحالات التي تفاعلت مع التوترات النفسية اليومية حتى وصلوا إلى مستوى من الاضطراب تطلب زيارتهم للعيادات النفسية التي قد تتمثل في العديد من الأعراض العضوية مثل اضطرابات الجهاز الهضمي والدوري والحركي وانخفاض المناعة وزيادة الحساسية والإجهاد والصداع وما إلى ذلك.. ، والأعراض النفسية كالتوجس والخوف والقلق، وتقلب الحالة المزاجية والشعور بالعجز والغضب لأتفه الأسباب والضيق والأعراض الذهنية مثل نقص التركيز والعجز عن اتخاذ القرار وسيطرة الأفكار غير العقلانية. وكذلك الأعراض في السلوك والتصرفات مثل التوتر الشديد والإفراط في التدخين وتعاطي المهدئات والمنبهات والمشكلات الجنسية والتعرض للحوادث وتدهور المستوى الدراسي، وكذلك الأعراض الواضحة في اضطراب العلاقة الشخصية والسلوك الاجتماعي مثل الاندفاع وتزايد الصراعات الاجتماعية وعدم الثقة في الآخرين والانسحاب الاجتماعي، وما إلى ذلك، وكذلك انخفاض حاد في معدلات الأداء الوظيفي والتي قد تعرض الفرد لترك العمل أو الفصل نتيجة الغياب والمشاكل والإهمال.
ولهذا يحدد الكتاب المصادر الكبرى للضغوط النفسية والناتجة عن الحياة اليومية وبيئة العمل والصراعات النفسية الانفعالية والعاطفية والعضوية، وأبعد من ذلك يزودنا الكتاب بعدد من الاستبيانات والقوائم الخاصة بتحديد مستوى الضغوط التي يمكن أن يخبرها القارئ بنفسه ويحدد مدى ما يعانيه من ضغوط وتأثره بها.
وبعد أن يتعرف القارئ على الضغوط النفسية وآثارها في الباب الأول يجد دليلاً علاجياً مميزاً ويسيراً في الباب الثاني وخاصة أسلوب الاسترخاء الذي برع فيه المؤلف كعالم ومعالج، حيث يعرض لأهمية الاسترخاء كأسلوب علاجي مستقل أو مصاحب لأساليب علاجية نفسية وطبية أخرى، ويعرض للعدد من أساليب التدريب على الاسترخاء وماله من فائدة عظمى في استراتيجية مواجهة الضغوط والتعامل معها بشكل يقلل أو يزيل الآثار السلبية للضغوط على الجسم والعقل والانفعال والسلوك. وسيجد القارئ كل ما قيل عن الاسترخاء وجدواه وأنواعه مع باقة متنوعة من التمارين على الاسترخاء العميق والاسترخاء بالتخيل والصور الذهنية المهدئة والأساليب المختصرة للاسترخاء وجدوى هذه التمارين وكيفية تفعيلها وانعكاس أداءها على تحسين مستويات الصحة النفسية بصورة دالة.
ولا ينتهي الأمر عند التدريب على الاسترخاء لمواجهة الضغوط وتحقيق السلامة العضوية والنفسية بل يتجاوز الكتاب هذه الأساليب بإضافة الباب الثالث الذي يتوج هذا الدليل الإرشادي والعلاجي القيم بأساليب أخرى تزيد من فاعلية الفرد على مواجهة تحديات الحياة من خلال عدد من الاستراتيجيات والأساليب الهامة مثل تغيير البيئة والابتعاد عن مصادر الصراع المشحونة بالتوتر والضغوط، وسيتعلم القارئ أساليب جديدة في إدارة الظروف الخارجية وضبطها للتخفف من آثارها السلبية، ولا يعني إدارة الضغوط الخارجية مجرد تجنبها أو الهروب منها، ولكن كيفية معالجتها والتعامل معها. فعالم بلا ضغوط هو عالم الموتى وفقاً لإدراكنا الحسي، ولكن الضغوط بقدر ما هي ضارة فإنها في الوقت نفسه مفيدة جداً، فبقدر ما يسعى الفرد إلى التخفف من التوتر الحاد بقدر ما هو بحاجة إلى اشتهاء قدر معقول من التوتر، وهذا ما يعلمنا إياه الفصل الثالث عشر برسم الحدود بين ما يمكن تغييره، ومالا يمكن تغييره لتحقيق السعادة الشخصية.
ومن المعروف أن الفرد لا يستطيع أن يضبط ويدير الظروف والضغوط الخارجية قبل أن يتعلم كيف يضبط ويدير ضغوطه النفسية الداخلية، ولهذا يركز الفصل الرابع عشر على التعامل مع المشكلات الانفعالية المرتبطة بإثارة التوتر والضغط النفسي وهم ما يطلق عليهم المؤلف بالأعداء الثلاثة " القلق والاكتئاب والغضب" حيث يتفاعل الإنسان مع ضغوطه الخارجية بانفعالات سلبية مثل الخوف والذعر والقلق والخزن والتشاؤم وعدم الثبات الانفعالي خاصة في تفجر نوبات الغضب، وكلها انفعالات تؤدي إلى تدهور القدرة على الحكم والتعقل في الأمور وتؤدي بدورها إلى الانسحاب الاجتماعي والانشغال البدني والعقلي بهذه الانفعالات السلبية حيث تتباطأ الخطى وتتوقف حركة الزمان وتتراكم الهموم، مما يؤدي إلى مسالك مضطربة تؤثر على الأداء الأكاديمي والعمل والعلاقات الاجتماعية، وسيجد القارئ سبل عديدة للخروج من مأزق هذه الانفعالات الضارة ويتعلم كيف يتخلص منها بأسلوب علاجي وإرشادي متقدم.
ولاشك أن انشغال الإنسان بنفسه في حال مهاجمته بأي من الأعداء الثلاثة القلق أو الاكتئاب أو الغضب إنما يجعله بمعزل عن التواصل الاجتماعي السليم، حيث تتسع دائرة الاضطراب، ويجد الفرد نفسه منهكاً وهو يدافع ضد هذه الانفعالات الضاغطة والتي تجعله عرضة أكثر لأتفه الضغوط الخارجية والتي قد تجعله يشوه المدركات ويقلب الحقائق ويضيع منه الطريق إلى الحياة الطبيعية والسعادة، ولهذا يركز الكتاب في الفصلين الخامس عشر والسادس عشر على طبيعة الصراعات الاجتماعية وأهمية وضع الآخرين في الاعتبار كطوق نجاة للخروج من المأزق الشخصي، وفي ذلك يقول المؤلف " التواصل بالآخرين من خلال وجود شبكة من العلاقات الاجتماعية يلعب دوراً حاسماً في الإقلال من نسبة الوفيات وإطالة العمر... ( وهو ) في صورته الإيجابية يعني وجود شبكة من العلاقات الاجتماعية الدافئة. وهو بهذا المعنى يفتح أمامنا آفاقاً من النمو لا حصر لها. أنظر لحياتك الشخصية، ستجد أن كل ما حصلت عليه من مزايا في الحياة: الصحة والتفاؤل والوظيفة التي تشغلها والترقية التي كنت تصبو إليها والنجاح الذي حققته أو ستحققه، والراحة التي تحصل عليها بعد عودتك للمنزل، وما تشعر به من رضا أو صحة نفسية أو عقلية. كل ذلك كان بسبب بضعة من الناس أحاطوك بالحب والرعاية والتقبل والتقدير " ( الكتاب ص 264 ).
ولذلك يعلمنا الكتاب كيف نكسب الأصدقاء ونؤثر في الناس، كيف نتواصل معهم ونجعل منهم داعمين ومشجعين لنا، كيف نتعلم أصول الألفة في العلاقات الزوجية، وكيف نتجنب الصراعات التي تسببها الضغوط على الحياة الأسرية، وكيف نتعامل مع الآخرين في ميدان العمل ونحقق النجاح من خلال شبكة الدعم الاجتماعي التي ننخرط فيها ندعمها وتدعمنا، ولاشك أن الهموم يخف حملها إذا تشارك الآخرين في حملها معناً.