ثم ذكر تعالى للمشركين قصة أهل القرية الذين كذبوا الرسل فأهلكهم الله بصيحةٍ من السماء فقال {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} أي واذكر يا محمد لقومك الذين كذبوك قصة أصحاب القرية "إنطاكية" التي هي في الغرابة كالمثل السائر والقول العجيب {إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ} أي حين جاءهم رسلنا الذين أرسلناهم لهدايتهم، قال القرطبي: وهذه القرية هي "إنطاكية" في قول جميع المفسرين أرسل الله إليهم ثلاثة رسل وهم "صادق" و "مصدوق" و "شمعون" أُمر صلى الله عليه وسلم بإِنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حلَّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل من الله، وقيل: هم رسل عيسى {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} أي حين بعثنا إليهم رسولين فبادروهما بالتكذيب {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي قوَّيناهما وشددنا أزرهما برسولٍ ثالث {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} أي نحن رسل الله مرسلون لهدايتكم {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي ليس لكم فضلٌ علينا وما أنتم إلا بشر مثلنا، فكيف أوحى الله إليكم دوننا؟ {وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} أي لم ينزل الله شيئاً من الوحي والرسالة {إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ} أي ما أنتم إلا قوم تكذبون في دعوى الرسالة {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} أي أجابهم الرسل بقولهم الله يعلم أننا رسله إليكم، ولو كنا كذبة لانتقم منا أشدَّ الانتقام، قال ابن جزي: أكدوا الخبر هنا باللام {لَمُرْسَلُونَ} لأنه جواب المنكرين، بخلاف الموضع الأول فإِنه إخبارٌ مجرد {وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي وليس علينا إلا أن نبلغكم رسالة الله بلاغاً واضحاً جلياً لا غموض فيه، فإِن آمنتم فلكم السعادة، وإِن كذبتم فلكم الشقاوة، قال أبو حيان: وفي هذا وعيدٌ لهم، ووصف البلاغ بـ {الْمُبِينُ} لأنه الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإِرسال، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل، من إبراء الأكمه والأبرص وإِحياء الميت {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي قال لهم أهل القرية: إنّا تشاءمنا بكم وبدعوتكم القبيحة لنا إلى الإِيمان، وترك عبادة الأوثان، قال المفسرون: ووجه تشاؤمهم بالرسل أنهم دعوهم إلى دينٍ غير ما يدينون به، فاستغربوه واستقبحوه ونفرت عنه طبيعتهم المعوجة، فتشاءموا بمن دعا إليه كأنهم قالوا: أعاذنا الله مما تدعوننا إليه، ثم توعَّدُوا الرسل بقولهم {لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا} أي والله لئن لم تمتنعوا عن قولكم، ودعوتكم لنا إلى التوحيد، ورفض ديننا {لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لنرجمنَّكم بالحجارة حتى تموتوا، ولنقتلنَّكم شرَّ قِتلة {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي قالت الرسل لهم: ليس شؤمكم بسببنا، وإِنما شؤمكم بسببكم، وبكفركم، وعصيانكم، وسوء أعمالكم {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ}؟ شرطٌ جوابه محذوف لدلالة السياق عليه أي لأئنا ذكرناكم ووعظناكم ودعوناكم إلى توحيد الله، تشاءمتم بنا وتوعدتمونا بالرجم والتعذيب؟ {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي ليس الأمر كما زعمتم بل أنتم قومٌ عادتكم الإِسرافُ في العصيان والإِجرام، وهو توبيخٌ لهم مع الزجر والتقريع {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} أي وجاء من أبعد أطراف المدينة رجل يعدو، يسرع في مشيه وهو "حبيب النجار"، قال ابن كثير: إن أهل القرية همُّوا بقتل رسلهم، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قومه، وهو -حبيب النجار- كان يعمل الحرير وهو الحباك، وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه، وقال القرطبي: كان حبيب مجذوماً ومنزله عند أقصى أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم لعلهم يرحمونه ويكشفون ضُرَّه، فما استجابوا له، فلما أبصر الرسل ودعوه إلى الله قال: هل من آية؟ قالوا: نحن ندعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك! فقال إن هذا لعجيبٌ، إني أدعو هذه الآلهة سبعين سنة لتفرج عني فلم تستطع فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا نعم ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر، فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به، فلمَّا همَّ قومه بقتل الرسل جاءهم مسرعاً وقال ما قصه القرآن {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} أي اتبعوا الرسل الكرام الداعين إلى توحيد الله، وإِنما قال {يَا قَوْمِ} تأليفاً لقلوبهم واستمالة لها لقبول النصيحة، ثم كرر القول تأكيداً وبياناً للسبب فقال {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي اتبعوا هؤلاء الرسل الصادقين المخلصين، الذين لا يسألونكم أُجرة على الإِيمان، وهم على هدى وبصيرة فيما يدعونكم إليه من توحيد الله {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تلطفٌ في الإِرشاد لهم كأنه ينصح نفسه، ويختار لهم ما يختار لنفسه، وفيه نوع تقريع على ترك عبادة خالقهم، والمعنى أيُ شيء يمنعني من أن أعبد خالقي الذي أبدع خلقي؟ وإِليه مرجعكم بعد الموت فيجازي كلاً بعمله؟ {ءأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} إستفهام إنكاري أي كيف اتخذ من دون الله آلهة لا تسمع ولا تنفع ولا تغني عن عابدها شيئاً؟ {إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} أي هي في المهانة والحقارة بحيث لو أراد الله أن يُنزل بي شيئاً من الضر والأذى وشفعت لي لم تنفع شفاعتهم ولم يقدروا على إِنقاذي، فكيف وهي أحجار لا تسمع ولا تنفع ولا تشفع؟ {وَلا يُنقِذُونِ} أي ولا يقدرون على إنقاذي من عذاب الله {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إني إن عبدت غير الله واتخذت الأصنام آلهة لفي خسران ظاهر جلي .. وبعد النصح والتذكير أعلن إسلامه، وأشهر إيمانه، فقال {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} أي إني آمنت بربكم الذي خلقكم، فاسمعوا قولي واعملوا بنصيحتي، قال المفسرون: لما قال لهم ذلك ونصحهم وأعلن إيمانه، وثبوا عليه وثبة رجلٍ واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه أذاهم، قال الطبري: وثبوا عليه فوطئوه بأقدامهم حتى مات، وقيل: رموه بالحجارة حتى مات {قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ} أي فلما مات قال الله له: ادخل الجنة مع الشهداء الأبرار، جزاءً على صدق إِيمانك وفوزك بالشهادة، قال ابن مسعود: إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه من دبره، وقال الله له {ادْخُلْ الْجَنَّةَ} فدخلها فهو يُرزق فيها، قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحُزنها ونَصبَها {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} أي فلمادخل الجنة وعاين ماأكرمه الله بها لإِيمانه وصبره تمنى أن يعلم قومه بحاله، ليعلموا حسن مآله أي يا ليتهم يعلمون بالسبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي، وأكرمني بدخول جنات النعيم، قال ابن عباس: نصح قومه في حياته، ونصحهم بعد مماته، قال أبو السعود: وإِنما تمنَّى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب الثواب والأجر، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإِيمان، جرياً على سنن الأولياء في الترحم على الأعداء {وما أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} هذا تحقيرٌ لهم وتصغيرٌ لشأنهم {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} أي ما كانت عقوبتهم إلا صيحةً واحدة صاح بهم جبريل، فإِذا هم ميتون لا حراك بهم، قد أُخمدت أنفاسهم حتَّى صاروا كالنار الخامدة، قال المفسرون: وفي الآية استحقار لإِهلاكهم فإِنهم أذل وأهون على الله من أن يرسل الملائكة لإِهلاكهم، وقد روي أنه لما قتل "حبيب النجار" غضب الله تعالى له، فعجَّل لهم النقمة فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم، فجعل طريق استئصالهم بالصيحة، ثم قال تعالى {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون} أي يا أسفاً على هولاء المكذبين لرسل الله المنكرين لآياته ويا حسرةً عليهم، ما جاءهم رسولٌ إلا كذبوه واستهزءوا به، وهكذا عادة المجرمين في كل زمان ومكان، قال في حاشية البيضاوي: إنهم أحقاء بان يتحسروا على أنفسهم أو يُتحسر عليهم، فإن الأمر لفخامته وشدته، بلغ بهم مبلغاً عظيماً حيث إنّ كل من يتأتى منه التلهف إذا نظر إلى حال استهزائهم بالرسل تحسَّر عليهم، وقال: يا لها من حسرةٍ وخيبة على هؤلاء المحرومين، حيث بدَّلوا الإِيمان بالكفر، والسعادة بالشقاوة، وفي الآية تعريضٌ بكفار قريش حيث كذبوا سيد المرسلين. ولمّا مثل حال كفار مكة بحال أصحاب القرية وبَّخ المشركين على عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} أي ألم يتعظ هؤلاء المشركون بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، ويعلموا أن هؤلاء المهلكين لا عودة لهم إلى الدنيا بعد هلاكهم {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي وأن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب والجزاء يوم القيامة بين يدي أحكم الحاكمين، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها؟ قال أبو حيان: وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإِهلاك تبييناً إلى أن الله تعالى لا يترك المهلكين بل بعد الهلاك جمعٌ وحساب، وثواب وعقاب.