***
)وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (الكهف:21)
قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } يعني مثل بعثهم من نومهم، فإن الله أعثر عليهم يعني أطلع عليهم قومهم
( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) أطلع الله عليهم قومهم { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } إما أن المعنى بقيام الساعة الذي كان ينكره هؤلاء أو لأن الله تعالى يُنجي المؤمنين من الكفار، لأن هؤلاء السبعة نجوا من أمة عظيمة تقاتلهم وتنهاهم عن التوحيد.
(وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا ) الساعة: أي قيام الساعة. { لا ريب فيها } أي لا شك، واقعة لا محالة.
(إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) متعلقة بأعثرنا، أعثرنا عليهم حتى تنازعوا أمرهم بينهم، تنازعوا فيما بينهم ماذا نفعل بهم؟ أنتركهم أم ماذا نصنع بهم؟
(فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً) يعني ابنوا عليهم بنياناً حتى يكون أثراً من الآثار وحماية لهم.
(رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) يعني توقفوا في أمرهم كيف يَبقَونَ ثلاث مائة سنة وتسع سنين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتغيرون أيضاً
(قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) وهم أمراؤهم { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } بدل من أن نبني بنياناً نحوطهم به ونسترهم به ولا يكون لهم أثر أي لنجعلن عليهم مسجداً نتخذه مصلى، والظاهر أنهم فعلوا لأن القائل هم الأمراء الذين لهم الغلبة.
هذا الفعل، اتخاذ المساجد على القبور، من وسائل الشرك وقد جاءت شريعتنا بمحاربته حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في سياق الموت: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يُحذِّر ما صنعوا"[10]ثم قال مبيناً اختلاف الناس في عددهم**
)سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف:22)
سيقولون ثلاثة، أربعة، خمسة، كيف يمكن أن يكون قولان لغائب واحد؟ هذا يخرج على وجهين:
الوجه الأول: أن المعنى سيقول بعضهم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقول البعض الآخر: خمسة سادسهم كلبهم، ويقول البعض الثالث: سبعة وثامنهم كلبهم.
الوجه الثاني: أن المعنى أنهم سيترددون؛ مرة يقولون: ثلاثة، ومرة يقولون: خمسة، ومرة يقولون: سبعة. وكلاهما محتمل ولا يتنافيان، فتَجدُهم أحياناً يقولون كذا، وأحياناً يقولون كذا؛ حسب ما يكون في أذهانهم.
قال الله تعالى: { رَجْماً بِالْغَيْبِ } قاله في الذين قالوا: { ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } و{ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ }، كلا القولين قال الله تعالى إنهم قالوه: { رَجْماً بِالْغَيْبِ } أي راجمين بالغيب، وليس عندهم يقين.
( سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) ولم يقل: رجماً بالغيب، بل سكت ، وهذا يدل على أن عددهم سبعة وثامنهم كلبهم، لأن الله عندما أبطل القولين الأولين، وسكت عن الثالث صار الثالث صواباً، نظيره قول الله تبارك وتعالى في المشركين إذا فعلوا فاحشة: { واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها اباءنا} هذا واحد، { والله أمرنا بها} هذا اثنان، قال الله تعالى: {قل إن الله لايأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون } [الأعراف: 28] ، فأبطل قولهم: { والله أمرنا بها } وسكت عن الأول؛ فدل على أن الأول: { وجدنا عليها اباءنا } صحيح، وهنا لما قال: { رَجْماً بِالْغَيْبِ } في القولين الأولين، وسكت عن الثالث دل على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
(قُلْ رَبِّي أَعْلَم بِعِدَّتِهِمْ ) يعني إذا حصل نزاع فقل للناس: { ْ رَبِّي أَعْلَم بِعِدَّتِهِمْ } وهل أعلمنا الله بعدتهم؟
الجواب: نعم؛ أعلمنا بأنهم سبعة وثامنهم كلبهم، يعني فإذا كان الله أعلم بعدتهم فالواجب أن نرجع إلى ما أعلمنا الله به، ونقول جازمين بأن عدتهم سبعة وثامنهم كلبهم.
( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ) أي ما يعلمهم قبل إعلام الله أنهم سبعة وثامنهم كلبهم إلاَّ قليل
( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ ) أي في شأنهم، في زمانهم، في مكانهم، في مآلهم.
( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً ) أي لا يصل إلى القلب لأنه إذا وصل الجدال إلى القلب اشتد المجادل، وغضب وانتفخت أوداجه وتأثر، لكن لما لم يكن للجدال فيهم كبير فائدة قال الله تعالى: { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً } يعني إلاَّ مراءً على اللسان لا يصل إلى القلب، ويؤخذ من هذا أن ما لا فائدة للجدال فيه لا ينبغي للإنسان أن يتعب قلبه في الجدال به، وهذا يقع كثيراً؛ أحياناً يحتمي بعض الناس إذا جودل في شيء لا فائدة فيه، فنقول: "يا أخي لا تتعب، اجعل جدالك ظاهراً على اللسان فقط لا يصل إلى القلب فتحتمي وتغضب"، وهذا يدل على أن ما لا خير فيه فلا ينبغي التعمق فيه، وهذا كثير، وأكثر ما يوجد في علم الكلام، فإن علماء الكلام الذين خاضوا في التوحيد وفي العقيدة يأتون بأشياء لا فائدة منها، مثل قولهم: "تسلسل الحوادث في الأزل وفي المستقبل" وما شابه ذلك من الكلام الفارغ الذي لا داعيَ له، وهم يكتبون الصفحات في تحرير هذه المسألة نفياً أو إثباتاً مع أنه لا طائل تحتها، فالشيء الذي ليس فيه فائدة لا تتعب نفسك فيه، وإذا رأيت من صاحبك المجادلة فقل له: "تأمل الموضوع" وسدَّ الباب.
( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ) أي ولا تستفت في أهل الكهف { مِنْهُمْ } أي من الناس سواءٌ من أهل الكتاب أم من غيرهم أحداً عن حالهم وزمانهم ومكانهم، وفيه إشارة إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يستفتي من ليس أهلاً للإفتاء، حتى وإن زعم أن عنده علماً فلا تَسْتَفْتِهِ إذا لم يكن أهلاً.