***
)قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف:110)
قوله تعالى: { )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ } يعني أعلن للملأ أنك لست ملكاً، وأنك من جنس البشر { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } وذِكر المثلية لتحقيق البشرية، أي: أنه بشر لا يتعدى البشرية، ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - يغضب كما يغضب الناس، وكان صلى الله عليه وسلم يمرض كما يمرض الناس، وكان يجوع كما يجوع الناس، وكان يعطش كما يعطش الناس، وكان يتوقى الحر كما يتوقاها الناس، وكان يتوقى سهام القتال كما يتوقاها الناس، وكان ينسى كما ينسى الناس، كل الطبيعة البشرية ثابتة للرسول - عليه الصلاة والسلام - وكان له ظِلٌ كما يكون للناس.
أمّا من زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نُورَاني، ليس له ظل فهذا كذب بلا شك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر له ظل ويستظل أيضاً، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له ظل، لنقل هذا نقلاً متواتراً؛ لأنه من آيات الله عز وجل إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم بشر مثل الناس، وهل يقدر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجلب للناس نفعاً أو ضراً؟
الجواب: لا، كما أمره الله عز وجل أن يقول: )قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) (الجـن:21) ، ومن العجب أن أقواماً لا يزالون موجودين، يتعلقون بالرسول صلى الله عليه وسلم أكثر مما يتعلقون بالله عز وجل إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم اقشعرت جلودهم، وإذا ذكر الله كأن لم يُذكر! حتى إن بعضهم يؤثر أن يحلف بالرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يحلف بالله عز وجل وحتى إن بعضهم يرى أن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أفضل من زيارة الكعبة، ولقد شاهدت أناساً حُجزوا عن المدينة في أيام الحج لقرب وقت الحج، لأنه إذا قرب وقت الحج منعوهم من الذهاب إلى المدينة، لئلَّا يفوتهم الحج، يبكي! يقول: أنا منعت من الأنوار، ومنعت من كذا وكذا ويعدد ما نسيته الآن، فيقال له: أنت لماذا جئت؟ قال: جئت لمشاهدة الأنوار كأنه ما جاء إلا لزيارة المدينة، ونسي أنه جاء ليؤدي فريضة الحج، وسبب ذلك الجهل؛ وأن العلماء لا يبينون للعامة، وإلاّ فالعامي عنده عاطفة جياشة لو أنه أخبر بالحق لرجع إليه.
( يُوحَى إِلَيَّ ) هذا هو الميزة للرسول صلى الله عليه وسلم، أنه يوحى إليه، وغيره لا يوحى إليه، إلاَّ إخوانه من المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
( أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) هذه الجملة حصر، كأنه قال: لا إله إلا واحد، واستفدنا أنها للحصر من "إنَّما"؛ لأن كلمة "إنما" من أدوات الحصر، تقول: "إنما زيد قائم" يعني ليس له وصف غير القيام، وتقول: "إنما العلم بالتعلم" وليس هناك طريق للعلم إلاَّ بالتعلم.
( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ) أي: يُأمِّل أن يلقى الله عز وجل ويؤمن بذلك.
( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ) دعوة يسيرة سهلة، أتريد أن تلقى ربك وقلبك مملوء بالرجاء؟ إذا كان كذلك
{ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً }. كل إنسان عاقل يرجو لقاء الله عز وجل ولقاء الله عز وجل ليس ببعيد، قال الله تعالى: )مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت:5). قال بعض العلماء: إن قوله { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ } بمعنى قولِهم "كل آتٍ قريب".
( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )إذا قال قائل: ألستم قررتم أن العمل الصالح، لا بد فيه من إخلاص ومتابعة؟ قلنا: بلى، لكنه لما كان الإخلاص ذا أهمية عظيمة ذكره تخصيصاً بعد دخوله ضمن قوله: { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً }.
وتأمل قوله: { بِعِبَادَةِ رَبِّهِ } ليتبين لك أنه جلَّ وعلا حقيق بأن لا يشرَك به؛ لأنه الرب الخالق المالك المدبر لجميع المخلوقات، إننا نقول بقلوبنا وألسنتنا: "ربنا الله" ونسأل الله تعالى الاستقامة حتى ندخل في قوله تعالى
)إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ إلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30)
والحمد لله الذي وفقنا لإكمال هذه السورة، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.