هل أن نهج البلاغة للشريف الرضي ؟ أم هو للإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) ؟
الاجابة للشيخ صالح الكرباسي
إن كتاب نهج البلاغة هو مجموع ما اختاره السيد الشريف الرضي [1] ( قدَّس الله نفسه الزَّكية ) و انتخبه من كلام الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) في الخطب و المواعظ و الحِكَم و غيرها .
من أول من جَمع خُطب الإمام ؟
لم يكن السيد الشريف الرضي هو أول من جمع بعض خطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) بل ان هناك آخرين ممن تقدموا عليه بعشرات السنين سبقوه إلى ذلك و بادروا إلى جمع كلامه ( عليه السَّلام ) ، ثم توالى تدوين كلام الإمام ( عليه السَّلام ) و خطبه حتى جاء دور الشريف الرضي ( رحمه الله ) في النصف الأخير من القرن الرابع الهجري ، فجمع ( رحمه الله ) ما اختاره من كلام الإمام ( عليه السَّلام ) و لم يجمع جميع كلامه ( عليه السَّلام ) .
ثم إن السيد الرضي لم يذكر من كل خطبة إلا القليل المختار منها و لم يذكرها بالكامل .
كيف تسنى للرضي جمع خطب الإمام ؟
استعان الشريف الرضي في جمع كلام الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) بالكتب الكثيرة التي كانت في متناول يده آنذاك ، فقد كانت بغداد في ذلك اليوم تزخر بالمكتبات العامة و الخاصة الفريدة التي تضُمُّ كتباً كثيرة ، و من جملة تلك المكتبات مكتبة أخيه السيد المرتضى علم الهدى ( رحمه الله ) التي كانت تشتمل على ثمانين ألف مجلد .
و بالنسبة إلى وفرة الكتب في ذلك الزمان ببغداد يقول ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان : " لم يكن في الدنيا أحسن مكتبة منها ، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة ، و أصولهم المحررة ، فيا للأسف و الأسى على إعدام أيادي الجناة تلك الجواهر الفريدات في ـ سنة ـ 447 " [2] .
و بالطبع فلو لم يجمع الشريف الرضي ما اختاره من كلام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) في نهج البلاغة من تلك المصادر لكنا محرومين منه أيضا اليوم بكل تأكيد .
ذلك لأن ما وصل من خطب الإمام ( عليه السَّلام ) إلى المؤرخ الشهير المسعودي المتوفى سنة : 346 هجرية [3] كانت أربعمائة و نيف و ثمانون خطبة ، و لا شك أن خطب الإمام ( عليه السَّلام ) تتجاوز في الأصل هذه الكمية ، و الحال أن الموجود منها في نهج البلاغة و غيره من الكتب لا يبلغ بمجموعه نصف هذا العدد [4] .
هذا و من اللازم أن لا ننسى دور أعداء علي ( عليه السَّلام ) في القضاء على الكثير من الكتب و المصادر التي كانت تزخر بفضائل علي ( عليه السَّلام ) و كلامه في شتى المواقف ، يقول العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي : " ... فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض و غربها ، و اجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره و التحريف عليه و وضع المعايب و المثالب له ، و لعنوه على جميع المنابر ، و توعّدوا مادحيه بل حبسوهم و قتلوهم ، و منعوا من رواية حديثٍ يتضمّن له فضيلة أو يرفع له ذكراً ، حتى حَظَّروا أن يُسمى أحد باسمه ... " [5] .
الذين سبقوا الرضي في جمع كلام الإمام :
أما الذين سبقوا الشريف الرضي في جمع خطب الإمام و كلماته فقد ذكر العلامة المحقق الشيخ آغا بزرك الطهراني بعضهم ، و اليك أسماءهم :
1. زيد بن وهب الجهني الذي شهد صفين ، و قال عنه أنه أول من جمع خطب الإمام [6] ( عليه السَّلام ) إذ بادر إلى جمع خطب الإمام ( عليه السَّلام ) في زمن الإمام و حياته ، و هذا الكتاب يعرف بكتاب الخُطب .
2. إسماعيل بن مهران ، فقد جمع جملة من خطب أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) يعرف أيضا بكتاب الخُطب [7] .
هذا و يظهر من كلام ابن شهر أشوب المتوفى سنة 588 هجرية وجود جملة من مشهورات خطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) المذكورة في نهج البلاغة في عصره [8] .
قال في المناقب : ألا ترى إلى خُطَبه ... و ذكر أسماء جملة منها ، و عَدَّ منها : اللؤلؤة ، الافتخار ، الدرة اليتيمة ، الأقاليم ، الوسيلة ، الطالوتية ، القصبية ، السلمانية ، الناطقة ، الدامغة ، الفاضحة ، و غيرها مما لا يوجد في نهج البلاغة ، كما ذكر في الأثناء بعض ما يوجد في نهج البلاغة مثل : الشقشقية ، التوحيد ، القاصعة ، الأشباح ، الاستسقاء ، الغراء ، النخيلة ، و غيرها ، ثم أحال إلى بعض ما ألف في خطبه ( عليه السَّلام ) مثل نهج البلاغة ، و كتاب الخُطب لإسماعيل بن مهران ، و الخُطب لزيد بن وهب ، و هذا يدلّ على وجود الكتب المذكورة في عصره .
الإمام علي ( عليه السَّلام ) مَشْرَع الفصاحة و البلاغة :
قد يقال أن ما في نهج البلاغة من خطب و كلمات و كتب هي من انشاءات الرضي الأدبية ، لكن هذا الكلام مردود و لا أساس له من الصحة ، إذ أن مستوى كلام الإمام علي ( عليه السَّلام ) شكلاً و مضموناً يختلف بشدة عن مستوى كلام السيد الرضي الذي قدَّم نهج البلاغة بمقدمة بيَّن فيها عظمة كلام الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) ، و بيَّن هدفه من جمع كلامه في كتاب نهج البلاغة .
فكلام علي ( عليه السَّلام ) من حيث البلاغة و الفصاحة في أعلى مستوى من الروعة ، بحيث لا يضاهيه كلام غيره قط ، كيف لا و علي ( عليه السَّلام ) أمير البيان و مَشرَع الفصاحة و البلاغة .
أقوال العلماء في بلاغة الإمام علي ( عليه السَّلام ) :
أقوال العلماء و كلماتهم في بلاغة الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) كثيرة جداً لا مجال لذكرها ، و لكي يقف القاريء على وجهة نظرهم بالنسبة إليه و إلى كلامه ( عليه السَّلام ) فنحن نقتطف منها بعض العيِّنات من كلمات أقطاب الأدب في هذا المجال :
1. قال السيد الشريف الرضي : " كان أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) مَشرَع الفصاحة و موردها ، و منشأ البلاغة و مولدها ، و منه ظهر مكنونها ، و عنه اُخذت قوانينها ، و على أمثلته حذا كل قائل خطيب ، و بكلامه استعان كل واعظ بليغ ، و مع ذلك فقد سبق فقصّروا ، و تقدّم و تأخّروا ، لأن كلامه ( عليه السَّلام ) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي ، و فيه عبقة من الكلام النبوي ... " [9] .
2. قال العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي : " و إني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدّل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود ، ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة بكلام يدّل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان الذين لم يأكلوا لحماً و لم يريقوا دماً ، فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس ، و تارة يكون في صورة سقراط و المسيح بن مريم الإلهي ، و اُقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة [10] منذ خمسين سنة و إلى الآن أكثر من ألف مرة ، ما قرأتها قط إلا و أحدثت عندي روعة و خوفاً و عظة ، أثّرت في قلبي وجيباً ، و لا تأملتها إلا تذكرت الموتى من أهلي و أقاربي و أرباب ودّي ، و خيّلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف الإمام ( عليه السَّلام ) حاله " [11] .
3. قال الجاحظ : قال سمعت النظَّام يقول : " علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) محنة للمتكلّم ، إن وَفى حقّه غَلى ، و إن بخسه حقّه أساء ، و المنزلة الوسطى دقيقة الوزن ، حادّة اللسان ، صعبة التّرقّي إلا على الحاذق الزّكي " [12] .
4. قال جبران خليل جبران : " إن علياً لمَن عمالقة الفكر و الروح و البيان في كل زمان و مكان " [13] .
5. قال ميخائيل نعيمة : " بطولات الإمام ما اقتصرت على ميادين الحرب ، فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته و طهارة وجدانه و سِحر بيانه ... " [14] .
6. قال عامر الشعبي : " تكلّم أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالاً فَقَأنَ عيون البلاغة ، و أيتمن جواهر الحكمة ، و قطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن ، ثلاث في المناجاة ، و ثلاث منها في الحكمة ، و ثلاث منها في الأدب .
فأما اللاتي في المناجاة ، فقال : إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً ، و كفى بي فخراً أن تكون لي رباً ، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب .
و أما اللاتي في الحكمة فقال : قيمة كل امرءٍ ما يحسنه ، و ما هلك امرء عرف قدره ، و المرء مخبوء تحت لسانه .
و اللاتي في الأدب فقال : أمنن على من شئت تكن أميره ، و استغن عمن شئت تكن نظيره ، و أحتج إلى من شئت تكن أسيره " [15] .
أقوال العلماء في نهج البلاغة :
و أقوال العلماء و الادباء في خصوص نهج البلاغة و صحة انتساب مافيه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) فهي كثيرة أيضاً نُشير إلى بعضها .
1. قال العلامة السيد محسن الأمين : " إن نهج البلاغة مع صحة أسانيده في الكتب و جلالة قدر جامعه و عدالته و وثاقته ، لا يحتاج إلى شاهد على صحة نسبته إلى إمام الفصاحة و البلاغة ، بل له منهُ عليه شاهد " [16] .
2. قال الفاضل الآلوسي : " هذا كتاب نهج البلاغة قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ما هو قبس من نور الكلام الإلهي و شمس تضيء بفصاحة المنطق النبوي " [17] .
3. قال الإمام محمد عبده : " جمع الكتاب ـ أي نهج البلاغة ـ ما يمكن أن يعرض الكاتب و الخاطب من أغراض الكلام ، فيه الترغيب ، و التنفير ، و السياسات ، و الجدليات ، و الحقوق و أصول المدنية و قواعد العدالة ، و النصائح و المواعظ ، فلا يطلب الطالب طلبه إلا و يرى فيه أفضلها ، و لا تختلج فكرة إلا وجد فيه أكملها " [18] .
4. قال الأديب أحمد حسن الزّيات المصري : " و لا نعلم بعد رسول الله ( صلَّى الله عليه و آله ) فيمن سلف و خلف أفصح من علي في المنطق ، و لا أبلّ منه ريقاً في الخطابة ، كان حكيماً تتفجر الحكمة من بيانه ، و خطيباً تتدفّق البلاغة على لسانه ، و واعظاً ملء السمع و القلب ، و مترسلاً بعيد غور الحجة ، و متكلماً يضع لسانه حيث يشاء ، و هو بالإجماع أخطب المسلمين و إمام المنشئين ، و خُطبه في الحثّ على الجهاد و رسائله إلى معاوية و وصف الطاووس و الخفاش و الدنيا ، و عهده للأشتر النخعي إن صحَّ [19] تعدّ من معجزات اللسان العربي و بدائع العقل البشري ، و ما نظن ذلك قد تهيأ له إلا لشدة خلاطه الرسول و مرانه منذ الحداثة على الكتابة له و الخطابة في سبيله " [20] .
5. قال العلامة الشيخ محمد جواد مغنية : " إن كل كلمة من كلمات نهج البلاغة تعكس في وضوح روح الإمام و علمه و عظمته في دينه و جميع صفات الجلال و الكمال ، و لو لم يحمل نهج البلاغة اسم الإمام ثم قرأه عارف بسيرته و شخصيته لا يتردد في القول بأنه كلام الإمام من ألفه إلى يائه " [21] .
6. قال الأستاذ الهنداوي : " لا تكاد نرى كتاباً انفرد بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية الواحدة و الأسلوب الواحد ، كما نراه في نهج البلاغة ، لذلك نقرر و نكرر أن النهج لا يمكن أن يكون إلا لشخص واحد نفخ فيه نفس واحد " [22] .
[31] .