هو النبي الكريم يونس بن متى. قال عنه سيد الخلق وإمام البشر والرحمة المهداة للعالمين.. محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على يونس بن متى."ـ
كانوا يسمونه يونس.. وذا النون.. ويونان. وكان نبيا كريما أرسله الله إلى قومه فراح يعظهم، وينصحهم، ويرشدهم إلى الخير، ويذكرهم بيوم القيامة، ويخوفهم من النار، ويحببهم إلى الجنة، ويأمرهم بالمعروف، ويدعوهم إلى عبادة الله وحده. وظل ذو النون ينصح قومه فلم يؤمن منهم أحد
وجاء يوم على يونس فأحس باليأس من قومه.. وامتلأ قلبه بالغضب عليهم لأنهم لا يؤمنون، وخرج غاضبا وقرر هجرهم. حكى الله تعالى مبتدئا بقوله
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ
لا أحد يعرف عنف المشاعر والأحاسيس التي راحت تعتمل في نفس يونس غير الله وحده.. كان يونس غاضبا من قومه، كان حانقا آسفا وحزينا فخرج
ذهب إلى شاطئ البحر وقرر أن يركب سفينة تنقله إلى مكان آخر
لم يكن الأمر الإلهي قد صدر له بأن يترك قومه أو ييأس منهم، وظن يونس أن الله لن يقدر عليه عقوبة لأنه ترك قومه، غاب عن يونس عليه السلام أن النبي مأمور بالدعوة إلى الله فقط، ولا عليه أن تنجح الدعوة أو لا تنجح.. المفروض أن يدعو لله ويترك مسألة النجاح أو عدمه لخالق الدعوة
كانت السفينة ترسو في الميناء الصغير، والشمس تنحدر نحو الغروب، والأمواج تضرب الشاطئ وتتكسر على الصخور، ولاحظ يونس أن سمكة طفلة تقاوم الموج ولا تعرف كيف تتصرف، وأقبلت موجة كبيرة فرفعت السمكة وحطمتها على الصخور، وأحس يونس في قلبه بالحزن والأسف على السمكة الصغيرة. قال لنفسه لو كانت معها سمكة كبيرة فربما نجت
وتذكر حاله وكيف يترك قومه.. وزاد إحساسه بالغضب والحزن. ركب يونس السفينة
كان مضطربا لا يعرف أنه يفر من قدر الله إلى قدر الله
لم يكن معه طعام ولا كيس أمتعة ولا أصدقاء يصحبونه إلى الرصيف مودعين
كان وحده تماما. خطا بقدميه عل سطح السفينة، فصر الخشب صريرا مزعجا زاد في انقباضة قلبه. سأله القبطان وهو يجلس إلى طاولة عمله: ماذا تريد؟
وقع السؤال على يونس وقع الصاعقة. أود أن أسافر على سفينتكم.. هل بقي على إبحاركم وقت طويل؟
كان صوت يونس مضطربا يشي بالغضب والخوف والرهبة والقلق
قال القبطان وهو يرفع رأسه: نبحر مع ارتفاع المد التالي
لم يزل القبطان يحدق في وجه يونس
قال يونس بنفاذ صبر وقلق: ألا تبادرون بالإبحار قبل ذلك سيدي؟
قال القبطان: إبحارنا مع المد مبادرة يرضى بها كل مسافر شريف
واها لك يا يونس.. ها هي ذي طعنة أخرى
وأسرع يونس يحول فكر القبطان عن ريبته بأن تساءل: سأسافر معكم.. كم تبلغ أجرة السفر..؟ سأدفع على التو
قال القبطان، لا نقبل غير الذهب
قال يونس: لا بأس
نظر القبطان إلى يونس. كان قبطان السفينة حصيفا ألمعيا يستطيع أن يستشف بنافذ بصره خوف الناس أو قلقهم، وكان تردده على الموانئ وزيارته للعالم ورؤيته للعالم وللناس قد جعلته رجلا يستطيع أن يخمن مشاعر الناس.. وأدرك القبطان أن يونس يفر من شيء ما.. وتصور القبطان أن يونس قد ارتكب جريمة ما.. ولم يكن جشع القبطان يسمح له بأن يفضح أي جريمة لدى مرتكبها، إلا إذا كان مقترفها مفلسا
إن الخطيئة التي تتمكن من دفع الأجرة في عالم القبطان.. تستطيع أن تسافر حرة طليقة دون جواز سفر.. فإذا كانت الفضيلة مسكينا مدقعا أوقفوه عند كل الحدود. لذلك أراد القبطان أن يختبر يونس قبل أن يسمح له بركوب السفينة
سأله ثلاثة أضعاف الأجرة التي يدفعها غيره من المسافرين، وكان يونس في حالة من ضيق الصدر والغضب العنيف والرغبة في الخروج من هذا البلد فدفع ما طلبه منه القبطان. وأمسك القبطان القطع الذهبية وراح يعضها بأسنانه وحاول أن يجد فيها قطعا مزيفة.. فلم يجد.. ووقف يونس يتلقى هذه الطعنات كلها وصدره يعلو ويهبط مثل المرجل.. وأخيرا سمح له القبطان بالسفر
قال يونس: حدد لي غرفتي يا سيدي.. فإنني متعب أريد أن ارتاح قليلا
قال القبطان: ذلك يبدو من ملامحك.. هناك غرفتك
أشار القبطان بيده
ألقى يونس نفسه على الفراش بملابسه كما هو.. وحاول النوم عبثا.. كانت صورة السمكة الصغيرة وهي تتمزق على الصخور لا تريد أن تفارق مخيلته. وأحس يونس أن سقف الغرفة جاثم على جبهته. أخذ يتنهد ضيق الصدر في هواء محصور راكد. وكان في غرفة يونس قنديل معلق يتأرجح تأرجحا واهنا وقد شد عن وسطه إلى الجدار بلولب. وعندما ترنحت السفينة بسبب ثقل الرزم الأخيرة التي ألقيت فيها بقي القنديل واللهب وكل ما يتصل بهما في وضع انحراف مستمر بالنسبة للغرفة.. ومع أنه كان في الحقيقة مستقيما استقامة لا تخطئها العين، فانه بدا للعين منحرفا في المستويات الخادعة التي كان معلقا بينها. وراح يونس وهو راقد على فراشه يدور بعينيه في سقف الغرفة، لم تجد نظراته القلقة أي ملاذ لها.. إن أرض الغرفة وسقفها وجوانبها تبدو جميعا مائلة. والقنديل معلق ومائل فيها.. ويئن يونس قائلا
كذلك هو ضميري معلق داخل نفسي على استقامة، وهو يتوهج مضيئا، إلا أن الغرفة التي تحتلها روحي مائلة. وبعد صراع أليم نشب في نفس يونس وهو ملقى على فراشه، أثقله عبء تعاسته الباهظة، وهوى به غريقا متخبطا في نوم قلق لا يكاد يستسلم فيه للنعاس حتى يفيق فزعا بلا سبب مفهوم
وحان وقت المد.. ورفعت السفينة حبالها، وانسابت على وجه الماء مبتعدة عن الرصيف.. مضت السفينة طوال النهار وهي تشق مياها هادئة وتهب عليها ريح طيبة
وجاء الليل على السفينة.. وانقلب البحر فجأة.. هبت عاصفة مخيفة كادت تشق السفينة.. وبدت الأمواج كمن فقدت عقلها فراحت ترتفع كالجبال وتهبط كالوديان وتلعب بأخشاب المركب. راحت الأمواج تكتسح سطح المركب وتصدم الواقفين فوقه وتغرق ملابسهم بالمياه
ووراء السفينة كان حوت عظيم يشق المياه وهو يفتح فمه.. صدرت الأوامر إلى أحد الحيتان العظيمة في قاع البحر أن يتحرك إلى السطح. وأطاع الحوت الأمر الصادر إليه من الله وأسرع إلى سطح البحر.. مضى يتعقب السفينة كما تقضي الأوامر.. واستمرت العاصفة..وأهاب رئيس النوتية بالأيدي أن تخفف أحمال السفينة، وطرحت الصناديق والرزم والجرار فضاع صوت جلبتها وهي تلقى في الماء.. وزاد صراخ الرياح وهب يونس فزعا من نومه فرأى كل شيء يهتز في الغرفة. عبثا حاول أن يقف معتدلا فلم يستطع. صعد إلى السطح لم يكد يراه القبطان حتى تذكر شكوكه وصرخ
ـ لقد ثارت العاصفة في غير وقتها المعهود.. معنا على سطح السفينة رجل خاطئ ثارت بسببه العاصفة.. سنجري القرعة على الركاب.. من خرج اسمه ألقيناه في البحر