الإمام جعفر الصادق
لم يجمع الناس على حب أحد في ذلك العصر كما أجمعوا على حب الإمام جعفر بن محمد الذي اشتهر فيهم باسم جعفر الصادق. ذلك أنه كان صافي النفس، واسع الأفق، مرهف الحس متوقد الذهن، كبير القلب، يلتمس في غضبه الأعذار للآخرين، حاد البصيرة، ضاحك السن، مضئ القسمات، عذب الحديث حلو المعشر، سباقا إلي الخير، برا طاهرا. وكان صادق الوعد، وكان تقيا. هو م العترة الطاهرة عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. جده لأمه هو أبو بكر الصديق وجده لأبيه هو الإمام علي بن أبي طالب .. وهو نسب لم يجتمع لأحد غيره!
ولد في المدينة سنة 80 هـ ومات فيها سنة 148 هـ. وخلال هذا العمر المديد أغنى الحياة والفكر بحسن السيرة، والعلم الغزير، وإشراقاته الروحية، واستنباطه العقلي. وكان مع جلال هذا الحسب متواضعا لله، يلتقي في أعماقه علم الصاحبين العظيمين وصلاحهما وحسن بلائهما، وتراث تقواهما، ولا يزدهيه على الرغم من ذلك كبرياء من يجمع في نفس واحدة أطراف ذلك المجد كله، وتلك الروعة كلها..!
وعى منذ طفولته نصيحة أبيه الإمام محمد الباقر "ما دخل في قلب امرئ شيء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله" تعهد وهو صغير جده لأمه القاسم بن محمد بن أبي بكر بقدر ما تعهده جده لأبيه علي زين العابدين بن الحسين بن أبي طالب .. فإذا به وهو صبي يحفظ القرآن ويتقن تفسيره، ويحفظ الأحاديث والسنة من أوثق مصادرها عن آل البيت، تواترا عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجه وعن الصديق رضي الله عنه وعن سائر الصحابة من رواة الأحاديث الصادقين. وأتاح له توافر هذه المصادر جميعا أن يتقن دراسة الحديث وفهمه، وأن يكشف ما وضعه المزيفون تزلفا للحاكمين أو خدمة لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع السياسي.
ثم نشر من الأحاديث ما حاول الحكام المستبدون إخفاءه لأنه يزلزل أركان الاستبداد! فقد كان حكام ذلك الزمان يجهدون في خفاء ما رواه علي بن أبي طالب من السنة. وانتهى نظر الإمام جعفر إلي أنه لا يوجد حديث شريف يخالف أو يمكن أن يخالف نصوص القرآن الكريم .. وأن كل ما ورد من أحاديث مخالفا لكتاب الله فهو موضوع ينبغي ألا يعتد به. وكان عصره متوترا مشوبا بالأسى، تخضب الرايات المنتصرة فيه دماء الشهداء من آل البيت، ويطغى الأنين الفاجع على عربدة الحكام! كان عصر الفتوحات الرائعة، والفزع العظيم والدموع. فالدولة الأموية تضع العيون والأرصاد على آل البيت منذ استشهد الإمام الحسين بن علي في كربلاء.
وهي تضطهدهم وتضطهد أنصارهم، وتخشى أن ينهض واحد منهم لينتزع الخلافة. استشهد عمه زيد في مقتلة بشعة تشبه ما حدث لجده الحسين أبي الشهداء وبكا الإمام جعفر أحر البكاء. وكان الإمام جعفر من بين آل البيت هو الإمام الذي تتطلع إليه الأنظار: أنظار الذين يكابدون استبداد الحكام، وأنظار الحكام على السواء! عرف منذ مطلع صباه أن الإمام علي بن أبي طالب رئيس البيت العلوي يلعن على المنابر في مساجد الدولة في صلاة الجمعة .. وعلى الرغم من أن أم المؤمنين أم سلمة كانت قد أرسلت إلي معاوية تنهاه عن تلك البدعة البشعة وتقول له: "إنكم تلعنون الله ورسوله إذ تلعنون علي بن أبي طالب ومن يحبه. وأشهد أن الله ورسوله يحبانه" .. على الرغم من تلك النصيحة، فقد ظل الإمام علي يلعن على المنابر، وتلعن معه زوجته فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وسمع جعفر هذه اللعنات طيلة صباه وجزءا من صدر شبابه، حتى جاء الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز فتبرأ إلي الله من هذا العار، وكان يحمل للإمام علي بن أبي طالب ما يحمل لغيره من الخلفاء الراشدين الثلاثة من إجلال وتوقير .. وأمر الخطباء أن يتلوا بدلا من لعن علي في ختام خطبة الجمعة الآية الكريمة التي مازالت تتلى إلي الآن: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
( النحل ، الآية : 90 ) .
وطابت نفس جعفر كما طابت نفوس الصالحين وأهل التقوى والعلم بم صنعه الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وأعلن الإمام جعفر في مجلسه إعجابه بالخليفة عمر .. سبط عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكان الإمام جعفر منذ رأى بطش الحكام بآل البيت وأنصارهم وبالباحثين عن الحقيقة وبمقاومي الاستبداد، كان قد أخذ بمبدأ التقية فلم يجهر بالعداء لبني أمية، إتقاء شرهم، وحذر الفتنة، وهم إذ ذاك غلاظ شداد على من لا يوالونهم. فآثر أن يهب نفسه للعلم، وألا يفكر في النهوض والانقضاض على السلطان الجائر، حقنا لدماء المسلمين. ورأى أن خير ما يقاوم به البغي هو الكلمة المضيئة تنير للناس طريق الهداية، وتزكيهم وتحركهم إلي الدفاع عن حقوق الإنسان التي شرعها الإسلام وإلي حماية مصالح الأمة التي هي هدف الشريعة. وكان قد تعلم من جده الإمام علي زين العابدين بن الحسين عن جده الرسول صلى الله عليه وسلم أن طلب العلم ونشره جهاد في سبيل الله، وأن الله تعالى جعل للعلماء مكانة بين الأنبياء والشهداء.
وكان قد رأى جده الإمام علي زين العابدين رضي الله عنه يخطو في المسجد حتى يجلس في حلقة أحد الفقهاء من غير آل البيت. فيقول له أحد الحاضرين: "غفر الله لك، أنت سيد الناس. وتأتي تتخطى خلق الله وأهل العلم من قريش حتى تجلس مع هذا العبد الأسود" فيرد زين العابدين: "إنما يجلس الرجل حيث ينتفع وإن العلم يطلب حيث كان". ولقد وعى الصغير دلالة هذا كله، وانتفع به طيلة حياته. ثم إن جديه ماتا وتركاه صبيا ليتولى تثقيفه أبوه الإمام محمد الباقر وهو أعلم زمانه بالقرآن وتفسيره وبالحديث والفقه فنقل إلي ابنه جعفر كل معارفه، ونقل إليه توقيرا خاصا للشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب.
وكان أبوه الإمام محمد الباقر يقول: "من جهل فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السنة. وأن قوما من العراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. والذي نفسي بيده لو وليت لتقربت إلي الله بدمائهم. ولا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم أكن استغفر لهما واترحم عليهما. إن أعداء الله عنهما لغافلون". كما ورث جعفر عن أبيه توقيره لعثمان بن عفان ذي النورين .. وكل صحابة رسول الله رضي الله عنهم.
ولقد مات محمد الباقر وابنه جعفر في نحو الخامسة والثلاثين، وقد أتقن معارف آل البيت وأهل السنة وترسبت في عقله نصائح أبيه "إياك والكسل والضجر فإنهما مفتاح كل شر. إنك إن كسلت لم تؤد حققا، وإن ضجرت لم تصبر على حق" .. "إن طلب العلم مع أداء الفرائض خير من الزهد" .. "إذا صحب العالم الأغنياء فهو صاحب دنيا، وإذا لزم السلطان من غير ضرورة فهو لص" .. ثم وصيته ألا يصحب خمسة ولا يحادثهم ولا يرافقهم في طريق: الفاسق والبخيل والكذاب والأحمق وقاطع الرحم لأن الفاسق يبيعه بأدنى متعة، والبخيل يقطع المال حين الحاجة، والكذاب كالسراب يبعد القريب ويقرب البعيد، والأحمق يريد أن ينفع فيضر، وقاطع الرحم ملعون في كتاب الله"
********************************************
التوقيع