الدرس 12/ 50 : سيرة الصحابي : مصعب بن عمير ، لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
تفريغ : م . م . حسان العودة
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .
بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقنا إتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الأكارم :
مع الدرس الثاني عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين . صحابي اليوم شاب متألق أشد التألق ، رخيٌ ، يرفل في حلل أنيقة ، كان مضرب المثل في شباب قريش ، إنه : مصعب بن عمير.
وقبل أن أمضي في الحديث عن هذا الصحابي الجليل ، لا بد من تعليق ضروري ، لماذا ندرس سير صحابة رسول الله ؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
إن الله اختارني ، واختار لي أصحابي .
فأصحابه نماذج للبطولة ، كل صحابي يمثل ـ بالتعبير الاجتماعي ـ نموذجاً اجتماعياً .
فأحدنا إذا قرأ سير صحابة رسول الله ، لابد من أن يجد في بعض الصحابة ما ينطبق عليه ، فيعد هذا الصحابي إذاً لهذا الأخ الكريم قدوة .
سيدنا مصعب بن عمير ، شاب من شباب مكة الذين يشار إليهم بالبنان ، منحه الله وسامة ونجابة ، ومروءة ، وحدّثْ عن هذا ولا حرج ، لكن الذي كان يلفت نظر الناس إليه أناقته المتناهية ، أثوابه الجميلة ، رقة حاشيته ، وقد تجد في شباب اليوم من يستهويه الثوب الأنيق ، والشعر المرجل والرائحة العبقة ، والأناقة في الحديث ، والتعبير ، والحركة ، والثياب والبيت ، هذا الصحابي ، يمثل هذا النموذج .
يصفه كتاب السيرة بأنه كان فتى ريان ، مدللاً ، منعماً ، كان حديث حِسان مكة ، لؤلؤة ندواتِها ومجالسها .
انظروا أيها الأخوة :
إلى هذا الشاب الأنيق ، الناعم ، الذي حباه الله ببحبوحة الحياة و بأناقة المظهر ، وبحسن الطلعة ، هذا الشاب سمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام ، وكيف أنه جاء بالتوحيد ، وكيف أنه دعا الناس إلى الإسلام وكيف أنه مع أصحابه القلة ، الخُلّص ، كانوا في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، هذا الصحابي ، بدافع حب الحقيقة ، بدافع رغبته الجامحة في معرفة شأن هذا النبي ، توجه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم ، ليلتقي النبي عليه الصلاة والسلام ويبدو أن هذا الشاب ينطوي على حب للحقيقة ، وإيثار للحق ، فما إن رأى النبي عليه الصلاة والسلام حتى تجاوبت نفسه معه ، وهفا قلبه إليه ، ومد النبي عليه الصلاة والسلام يده ليصافحه ، وليمسح عن صدره آثار الجاهلية ، وكانت لحظة إيمانٍ رائعةٍ سرت في أحناء هذا الصحابي الجليل ، وأعلن إسلامه على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن !. لِهذا الصحابي أم أسمها خناس بنت مالك ، تتمتع هذه الأم بقوة في شخصيتها فذة ، وقد تجد في كل عصر أماً قوية الشخصية يهابها أبناؤها ، إلى درجة الخوف ، يأتمرون بأمرها بقوة سحرية يخافون غضبها ، يرجون رضاها ، أم هذا الصحابي الجليل سيدنا مصعب بن عمير ، اسمها خناس بنت مالك ، تتمتع بقوة فذة في شخصيتها ، وكانت مهابةً إلى حد الرهبة . قال مصعب حينما أسلم : لم يكن يخاف أحداً ، ولا يخشى أحداً ولا يحسب حساب أحدٍ إلا أمه ، لو قيل له واجه الناس جميعاً ، واجه كل من في مكة لا يهابهم ، لكن قلبه كان يرتعد ، وأعصابه تتوتر حينما يذكر كيف سيواجه أمه بإسلامه .
كما هي العادة فكر في كتمان إسلامه ، كتم إسلامه وبالمناسبة : فإن الإنسان أحياناً يمرُّ في ظروف صعبة جداً ، وفي حالات استثنائية يجد من المناسب أن يكتم إيمانه ، وقد ورد في القرآن الكريم إشارة إلى ذلك :
( سورة غافر : 28 ) .
في حالات صعبة جداً ، وفي ظروف قاهرة ،وفي فتن مستعرة وفي حالات حرجة لا تستطيع أن تظهر ، والله عز وجل ما كلف الإنسان فوق طاقته ، فهذه الإشارة في القرآن الكريم ، تسلية لكل من كتم إيمانه :
( سورة غافر : 28 ) .
فسيدنا مصعب رأى من المناسب أن يكتم إيمانه أو إسلامه عن أمه ، فظل يتردد على دار الأرقم بن أبي الأرقم ، ويجلس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو قرير العين بإيمانه، لكنه تفادى غضب أمه بهذا الكتمان هناك قاعدة أنه لا شيء يختفي ، مهما حاولت أن تخفي شيئاً لا بد وأن يظهر ، بالمناسبة ، إذا أيقنت أن شيئاً لا يختفي فكن صادقاً ، هذه الحقيقة إذا ظهرت بادئ ذي بدء منك أفضل من أن تظهر ، أو أن تضبط متلبساً بها .
على كلٍ رجل اسمه عثمان بن طلحة ، أبصر به وهو يدخل خفية إلى دار الأرقم ، هذا الرجل عثمان بن طلحة حينما رآه يدخل دار الأرقم ، سابق الريح إلى أمه ليخبرها أن أبنك يتردد على دار الأرقم مقر النبي عليه الصلاة والسلام ، حينما واجهته أمه ، يعني ضبط متلبساً ، وهو يدخل دار الأرقم ، أجل حينما واجهته أمه ما استطاع أن ينكر الحقيقة ، بل قرر أن يظهرها ، وقف أمام أمه وعشيرته وأشراف مكة المتجمعين حوله يتلو عليهم في يقينٍ ، وثباتٍ القرآن الذي غسل قلبه وغذّى فؤاده ، وملأ جوانحه سعادة .
ألم أقل لكم قبل قليل أن أمه كانت قاسية جداً ، همت أمه أن تسكته بلطمة قاسية ، ولكن اليد التي امتدت لتلطمه ، ما لبثت أن استرخت وترنحت أمام النور الذي زاده وسامة في وجهه .
يعني لا أدري ماذا أقول لكم ، المؤمن أحياناً يهبه الله هيبة ورقة ، و وضاءة ، وجمالاً ، بحيث إن الذي يريد أن يناله بالأذى يجمد في مكانه .
وذات مرة وقف الحسن البصري رحمه الله تعالى ، موقفاً فيه جرأة بالغة جداً ويعني بلغة العصر تهوّر ، بلغ الحجاجَ موقفُه ، وانتقادهُ فأمر السياف أن يقطع رقبته ومُدّ النطع في مجلس الحجاج ، والنطع عبارة عن جلد إذا قطع رأس هذا الرجل ، لئلا تصل الدماء إلى الأثاث الفخم ، والطنافس ، والأرائك ، فيمد جلد كبير جداً ، يقف هذا الذي يراد أن يقطع رأسه في وسطه وتضرب عنقه ، فإذا نفر الدم أصاب هذا النطع ، أجل مد النطع ، وطُلب الحسن كي تقطع رقبته ، فلما دخل الحسن البصري على الحجاج ، تمتم بشفتيه ولم يسمع أحد ماذا قال لكنه فيما يبدو طلب من الله عز وجل أن يحميه ، من بطش هذا الرجل ، و ما إن دخل ووجهه يتلألأ نوراً ، حتى وقف له الحجاج ودعاه إلى أن يجلس جنبه ، وسأله الدعاء وآنسه ، وطيب قلبه ، واحترمه أشد الاحترام ، وضّيفه ، ثم ودعه فالسياف وقف مذهولاً ، لا يدري ماذا يقول ، إذاً فلماذا جئتم بي إلى هنا .
فالمؤمن له هيبة أيها الأخوة ، والله ، إذا كنت مع الله لاكتسبت هيبة لا يعلمها إلا الله ، من هاب الله هابه كل شيء ، المؤمن له هيبة ، له شخصية قوية ليست من صنعه ، ولكن من تفضل الله عليه . على كلٍ هذا الصحابي الجليل حينما همت أمه أن تلطمه على وجهه وهو يتلو القرآن ، استرخت يدها ، وأخذت بأنوار وجهه ، لكنها ما لبثت أن أخذته بعد أن تلا على قومه القرآن ، لتحبسه في غرفة قصية من غرف البيت وكأنها بسذاجة إذا حبسته كف عن متابعة النبي الكريم ، وعن زيارته ولكن كان حبسها له بلا جدوى.
وبلغ سيدنا مصعباً أن النبي عليه الصلاة والسلام ، أمر أصحابه ، أن يهاجروا إلى الحبشة ، بطريقة أو بأخرى ، فانسل من غرفته القصية ، التي حبسته أمه بها ، ولحق بالقافلة ، وهاجر مع من هاجر إلى الحبشة ، وبعد أن أقام هناك ردحاً من الزمن ، عاد والتحق بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وخرج يوماً على بعض المسلمين .
وهم جلوس حول النبي صلى الله عليه وسلم بثياب رثة بالية بينما كان يرتدي أجمل الثياب ، وأغلاها ثمناً وأكثرها أناقة في الجاهلية .
يعني أن المجتمع الراقي بالتعبير اليومي فيه من يقول لك : بأن بذته اشتراها بثمانين ألف من لندن وحذاؤه بثمانية عشر ألفاً فهناك أشخاص يكتسب مكانته من ثيابه فقط ، وهذا مصداق ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام : في آخر الزمان ، قيمة الرجل متاعه .
هذا الصحابي يمثل الطبقة الغنية ، الأنيقة ، صاحبة الأذواق الرفيعة ، في اختيار الثياب ، في اختيار الحاجات . فخرج يوماً على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما إن بصروا به ، حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم ، وذرفت بعض عيونهم دمعاً شجياً . ذلك أنهم رأوه يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً ، وعاودتهم صورته الأولى قبل إسلامه ، حيث كانت ثيابه كزهور الحديقة نضرة ، وعطرة ...
تمّلى النبي الكريم تملاه جيداً ، تملّى مشهده بنظرات حكيمة شاكرة ، محبة ، وتألقت على شفتيه ابتسامة جليلة وقال : لقد رأيت مصعباً هذا ، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه ، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله .
فلتقف إذاً وقفة قصيرة . يعني إذا كان الإنسان ذا دخل محدود ، وبإمكانه أن يحصل على أموال طائلة بطريق غير مشروع ، فاختار طاعة الله ، ودخله المحدود جعله يرتدي ثياباً من الدرجة الخامسة ، وبيته متواضع ، وأكله خشن ، فأنا أرى أن هذا وسام شرف ، كله زائل أيها الأخوة ، يعني إذا أنت آثرت الحق آثرت أن تستقيم على أمر الله ، آثرت أن ترضي الله عز وجل ، آثرت ألا تأكل حراماً ، آثرت أن تأكل من كد يدك ، وعرق جبينك ، آثرت ألا تأكل مالاً ليس لك ، هذا الدخل الشرعي الحلال ، الطيب ، قليل لكن هذا الدخل القليل جعلك
تسكن بيتاً صغيراً ، وأن تأكل طعاماً خشناً وأن ترتدي ثياباً من الدرجة الخامسة ، فهل تستحيي مما أنت عليه ؟ إن كنت تستحيِ مما أنت فيه ، فأنت لا تعرف الله .