والله أخٌ كريم محامٍ ، قال لي : يا أستاذ : جاءني رجل عرض عليّ قضية لأكون وكيلاً له فيها وهذه القضية مشمولة بقانون العفو فكنت صادقاً معه ، قلت له يا فلان قضيتك لا تحتاج إلى محامٍ ، تقدم بطلب إلى المحكمة الفلانية ، وسيصدر حكمٌ فوري بإعفائك من هذه الجنحة لأن قانون العفو يشملك ، لكنه لم يقتنع فذهب إلى محامٍ آخر بث في روعه أن القضية خطيرة جداً ، و يجوز أن يسجن فيها عشر سنوات ، حتى ابتز منه عشرين ألفاً ، ولم يكتفِ بهذا بل اتهمني أنني لا أفقه شيئاً بالمحاماة وقال عني :هذا أجدب ، مو فهمان …. فكان هذا المحامي متألماً لما اتهم به . أما أنا فوالله أيها الأخوة ، حينما قال لي هذا الكلام ، رأيته إنساناً كبيراً في نظري قلت له والله كلام الناس عنك ، بأنك محامٍ مبتدئ أو ساذج، والله هذا وسام شرف عند الله عز وجل ، هذا هو المؤمن ، وهكذا يجب أن يكون .
أنا أتمنى على إخواننا الكرام أن يتحلوا بالاستقامة ، فالإنسان عندما يستقيم فقد تكون عنده إمكانيات كبيرة ، ولكن إذا استقام وأرضى الله عز وجل فهو ملِك في الدار الآخرة .
فمصعب بن عمير ، من أسرة غنية جداً ، ولو بقي على دين آبائه لعاش حياة ناعمة جداً ، لكن لأنه أسلم ، والتحق بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وكان أصحاب النبي رضوان الله عليهم فقراء ضعفاء :
( سورة هود : 27 ) .
أي فقراء وهذا شأن كل نبي ، كبراء القوم ، أصحاب الغنى ، هؤلاء غارقون في شهواتهم ، أصحاب القوة غارقون في وجاهاتهم ، لكن الضعاف يتبعونه ، هؤلاء الضعاف سيغنيهم الله عز وجل .
وهذه كلمة قالها النبي الكريم ، لعدي بن حاتم ، لا أنساها ما حييت ، قال له :
لعلك يا عدي ، إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم ، من فقرهم ، وايم الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج البيت على بعيرها لا تخاف ، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم ، فو الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البابلية مفتحة للمسلمين .
فالبطولة أن تكون مع الحق ، وليكن ما يكون ، البطولة أن تكون على منهج الله عز وجل غنياً كنت أو فقيراً ، طبعاً الغنى مع الإيمان وارد ، فسيدنا ابن عوف كان غنياً ، وكان يقول وماذا أفعل والله لأدخلتها خبباً ، فلقد جاءته قافلة من سبعمائة بعير محملة ببضاعة ثمينة من الشام ، حتى ضجت أسواق المدينة ، فقالت عائشة ما هذا الضجيج ؟ قالوا قافلة لعبد الرحمن بن عوف ، فقالت : أخشى أن يدخل الجنة حبواً فلما بلغه ذلك قال والله لأدخلنها خبباً ، وما عليّ إذا كنت أنفق مائة في الصباح فيؤتيني الله ألفاً في المساء ، اشهدوا أن هذه القافلة كلها لله عز وجل . تصور والآن أن واحداً جاءته قافلة من سبعمائة سكسويل سبعمائة شاحنة براد كبيرة، سبعمائة ، فقال اشهدوا أنها كلها في سبيل الله . على كلٍ فالنبي الكريم قال عن هذا الصحابي: لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه ، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله .
إذا كنت مستقيماً ، وحياتك متواضعة فافتخر وازهو.
( سورة الأحزاب : 71 ) .
( سورة الأعراف : 128 ) .
( سورة الحجرات : 12 ) .
آيات كثيرة ، تبشر المستقيمين على أمر الله ، بالفوز في الدنيا والآخرة ، حاولت أمه مرة ثانية أن تحبسه ولكنه أصر وقال : والله لأقتلن كل من تستعين به أمي على حبسي ، علمت أنه صادق وأنه يعني ما يقول ، فكفت عنه .
فلما جرى نقاش بينه وبينها قال لها يا أمي : إني لك ناصح وعليك شفوق ، فاشهدي أنه لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله أجابته غاضبة مهتاجة : قسماً بالثواقب لا أدخل في دينك ، فيزرى برأيي ويضعف عقلي .
والله هذه عقلها ضعيف ولو أن عقلها كان راجحاً لآمنت بالنبي عليه الصلاة والسلام .
قال عليه الصلاة والسلام : أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .
و حينما أسلم وأصر على إسلامه ، وترك دين آبائه ، حرمه أهله من كل شيء ، يقول كتاب السيرة : خرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الشظف والفاقة وأصبح الفتى المتأنق المعطر ، لا يرى إلا مرتديا أخشن الثياب . أنا أعرف فتاة مؤمنة تنتمي إلى أسرة غنية جداً ، لكنها اصطلحت مع الله وأنابت إليه ، فحينما أنابت إلى الله عز وجل ما بقي أحد من الشباب الأغنياء الذين يعرفونها قبل توبتها يرغبون بها خطبها رجل فقير دخله محدود ، فقلبت ، وانتقلت من بيت واسع جداً إلى بيت صغير ، ومن طعام نفيس ، إلى طعام خشن ومن ثياب أنيقة إلى ثياب متوسطة معتدلة ، وقالت بملء فيها : أنا سعيدة بمعرفة الله ، وسعيدة بهذا الزوج ، وأنا أرضى أن أتخلى عن كل دنياي من أجل طاعة الله عز وجل .
أعرف فتاة سمعت عنها ، وأن أباها يدير أكبر ملهى من الملاهي التي تدر عليه أرقاماً فلكية ، ولو أنها طلبت من أبيها عدة ملايين لأعطاها إياها لكنها تعمل معلمة في إحدى قرى دمشق وتأكل من دخلها ولا تأخذ من مال أبيها شيئاً ، لأنها تعتقد أن مال أبيها كله حرام .
فهذه الأخبار عن مصعب تعني أن هذا الصحابي الجليل نموذج لكل شاب ، ينتمي إلى أسرة غنية فلما خرج عن نمط حياة أسرته ، وحرمه أهله ، عاش حياة متقشفة فله بهذا الصحابي الجليل ، أسوة حسنة . مرة ثانية لأنك مستقيم فدخلك محدود ، والله عز وجل لحكمة أرادها جعل الحرام سهلاً ، وجعل الحلال صعباً ، الحرام سهل ، يعني امرأة تشتغل أحياناً ثماني ساعات تأخذ مائة وخمسين ليرة في خدمة شاقة في البيوت ، وامرأة تبيع ما وهبها الله من جمالٍ تبيعه بمبالغ طائلة لوقت قصير ، فهذه امرأة وهذه امرأة !! ولكن أين الثرى من الثريا؟
و الإنسان حينما يخلص لله عز وجل ربنا عز وجل يندبه لأعظم المهمات ، وعندما يخلص ، فالله عز وجل يستخدمه في الحق .
سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام كان في أصحابه من هو أكبر من مصعب سناً ، وأعلى شأناً ، وأكثر جاهاً ، وأقرب إلى النبي نسباً ، لكن عليه الصلاة والسلام ندبه ليكون خليفة له في المدينة قبل أن يهاجر إليها .
وهناك بالسيرة أمرٌ أقف أمامه محتاراً ، أنه حينما هاجر النبي إلى المدينة ، كيف أن أهلها خرجوا عن بكرة أبيهم يستقبلونه ، ويعظمونه ويصدقونه ، ويحبونه ، وهم لم يلتقوا بها من قبل ، فهل عرفتم ما السر ؟
السر أن هذا الصحابي الجليل الذي أرسله النبي إلى المدينة قبل أن يهاجر إليها جعل الله هداية كبار أصحابه من الأنصار على يديه .
منهم مثلاً سيدنا سعد بن عبادة ، سيدنا سعد بن معاذ ، كبار الصحابة أسلموا على يده ، قبل أن يأتي النبي . هذا الشيء نقلني إلى فكرة ، فأحياناً ترى الجامع ملأنَ ، فهل تعرف الفضل لمن يعود ؟ لبعض الأخوة النشيطين الذين يندفعون لنشر الحق ، يُقنع جاره ويقنع أخاه ، يقنع ابنه ، يقنع أباه ، يقنع زميله في العمل ، يعني يدعوه إلى المسجد ، يدله على الله ، يسمعه بعض الأشرطة ، يناقشه ، يخدمه ، فغص الجامع وامتلأ ، هذا الجامع أساسه أخ نشيط بذل كل شيء ، حتى أقنع الناس بالحق ، وحتى أقنعهم بالهدى ، وحتى حملهم على التوبة .
المدينة عن بكرة أبيها تخرج لاستقبال النبي و لم يلتقوا به من قبل ، ولم يسمعوا كلامه ، من الذي جلس بينهم ، ودعاهم إلى الهدى ، وقرأ عليهم القرآن ، وحدثهم عن النبي عليه الصلاة والسلام ، بين لهم شمائله الشريف ، عرفهم بربهم ، بين كمال الله عز وجل ، بأسمائه الحسنى ،و صفاته الفضلى من هذا الذي كان يعمل ليلاً ونهاراً ، سيدنا مصعب ...
يعني ماذا أقول إن صح التعبير ، إن الأنصار كلهم في صحيفته . تضيق عليك دنياك ويقل دخلك ، لكن الله عز وجل يعطيك أضعاف مضاعفة عطاءً لا ينتهي بالموت ، يبدأ بعد الموت.
فالإنسان لا يقيس نفسه ويقيس الآخرين بالأمور المادية ، هذا قياس فاسد ، رب أشعث أغبر ذي طمرين ، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره لا تقس نفسك بمساحة بيتك ، ولا بمستوى بيتك ، ولا بدخلك ، ولا بمركبتك ، قِس نفسك بطاعتك لله ، واجعل قوله تعالى نصبَ عينيك :
( سورة الحجرات : 12 ) .
صحيح أن هذا الصحابي ، فقد الثوب الجميل ، والرائحة العطرة لكنه صار من الخالدين في دنيا الناس وعند الله تعالى و الإنسان ما له حق في أن يفتخر بدنياه أيها الأخوة ، فإذا افتخر بدنياه أفسد حياة الناس وصرفهم عن الآخرة ، أما إذا حدثهم عن الله عز وجل ، فقد قربهم إلى الله وأصلح عليهم دنياهم لا أفسدها .
وعندنا قصة يبدو أن فيها حكمة فهذا الصحابي الجليل ، قال ذات يوم وهو يعظ الناس ، وقد فاجأه أسيد بن حضير ، سيد بني عبد الأشهل بالمدينة وكان يدرس وحوله هؤلاء الذين أحبوا الإسلام ، وانشرحت صدورهم له ، فاجأه أسيد بن حضير شاهراً حربته يتوهج غضباً على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم ، وقال له ما جاء بكما إلى حينا ؟ هو وأسعد بن زرارة ،
وهما أخوان في الإسلام كريمان ، ما جاء بكما إلى حينا ؟ تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إذا كنتما لا تريدان الخروج من المدينة . و الإنسان ، إذا وقف الموقف اللين ، والموقف الحكيم ،فهو عاقل رشيد ، و هذا من نعمة الله عز وجل أن موقفاً ليناً فيه حكمة ، فقال له مصعب بلسان طيب ، أولا تجلس فتسمع فإن رضيت أمرنا قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره اسمع أولاً . فهل سمعتم بإنسان جاءته رسالة ، مختومة لا يدري ما بها مزقها ، وسب مرسلها ؟ أقرأها أولاً ، لعل فيها حوالة ، لعل فيها دعوة ، قبل أن تمزقها وتسب مرسلها أقرأها ، هذا منطق سليم وصحيح .