قال : أولا تجلس فتستمع فإن رضيت أمرنا قبلته وإن كرهته كففنا عنك ما تكره ، فقال أسيد بن حضير وكان رجلاً عاقلاً ، والله أنصفت ، معقول ، ما أحسن هذا القول وأصدقه ، فجلس وكان مصعب يتلو عليهم القرآن فاستمع إلى القرآن ، ودخل إلى قلبه ، وشرح الله صدره ، فقال أسيد : ما أحسن هذا القول وأصدقه ، كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين ، ما العمل ؟ فأرشدوه إلى ذلك .
سيدنا عمير بن وهب مرة قال : والله لولا أولاد صغار أخاف عليهم العنت ، ولولا ديون ركبتني لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه ، فرجل أسمه صفوان كان قاعداً ، قال له ديونك علي بلغت ما بلغت ، وأولادك أولادي مهما امتد بهم العمر ، اذهب لما أردت .
فعمير من فوره سم سيفه وذهب ، ولما وصل للمدينة ، رآه سيدنا عمر فقال : هذا عدو الله ساقه إلى رسول الله ، القصة تعرفونها لكن المغزى ، هذا عمير بن وهب عدو لدود ، حاقد ، ابنه قتل في بدر ، قال له سيدنا النبي ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال جئت أفك ابني ، قال له : وهذا السيف الذي على عاتقك ، قال له : قاتلها الله من سيوف ، فقال له النبي : ألم تقل لصفون كذا وكذا وكذا فوقف ، وقال أشهد أنك رسول الله ، لأن الذي قلته لصفوان لا يعلمه إلا الله ، وأنت رسوله ، فدخل عدواً لدوداً ينوي القتل وخرج مسلماً ، يعني الصلحة مع الله تتم بلمحة أحياناً . فهذا أسلم وخرج لكي يطهر ثوبه وبدنه ، ويشهد أن لا إله إلا الله ، بعد قليل عاد وقد أغتسل ، وأعلن الشهادة وأسلم ، أسلم أسيد بن حضير ، أسلم سعد بن عبادة ، أسلم سعد بن معاذ ، فلما يسلم الكبار ، فالصغار يتبعونهم ، إذا وفقك الله أن تتحه لإنسان له مكانته له شأنه ، مثقف ثقافة عالية ، يحتل مركزاً مرموقاً وقنع بالإسلام ، فهذا له أتباع يحذون حذوه فهي نعمة من نعم الله .
فسيدنا مصعب وفقه الله في دعوته ، فلانت قلوب كبراء المدينة ، فلما لانت قلوبهم وأسلموا معه ، ودخلوا في هذا الدين العظيم ، كل أتباعهم تبعوهم ، كلكم يعلم أن هذا الصحابي الجليل خاض معركة أحد (( غزوة أحد )) وحمل لواء من ألوية أجنحتها وكلكم يعلم أنه لما جال المسلمون واشتبكوا مع عدوهم ثبت مصعب فأقبل ابن قميئة وهو فارس فضربه على يده اليمنى فقطعها ، ومصعب يقول :
( سورة آل عمران : 144 ) .
وأخذ اللواء بيده اليسرى تم حمل حنا عليه ، عدو الله ثانيةٍ فضرب يده اليسرى فقطعها ، وحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره ، وهو يقول :
ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه واندق الرمح ووقع مصعب وسقط اللواء ، ووقع شهيداً بل كان كوكباً بين الشهداء . الشيء الذي يدمي القلب أن هذا الصحابي قال عنه بعض أصحاب رسول الله ، قالوا : هاجرنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في سبيل الله نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله ، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره في دنياه شيئاً .
والإنسان عندما يستقيم ويتعرف إلى الله ، ويكبر ، فالله عز وجل يكرمه ويتزوج يسكن بيتاً، ويكون له دخل جيد ، يترفه ويأكل ويسعد ويقوم بنزهات كثيرة ، يتمتع بالدنيا ، فيقول لك : الله أكرمني والحمد لله لقد استقمت على أمر الله والله أكرمني ، لكن هذه الدنيا ليست دار نعيم إذا الله أكرمك فالحمد لله ، هذه من نعم الله الكبرى ، لكن لو أن الله عز وجل ، تبعنَ إنساناً بعد أن أسلم ، وأحب الله عز وجل واختاره إلى جواره فهل ضاع عليه شيء ؟ لا ، فهذه فكرة سخيفة جداً ، إذا لم يخسر شيئاً ولا أضاع شيئاً :
( سورة آل عمران : 169 ) .
و الإنسان عندما يخلص لله عز وجل ، ويتوكل على الله عز وجل فقد ربح ورب الكعبة فهذا الصحابي الجليل حياته كلها دعوة إلى الله ، حياته كلها جهاد ، وما عليك إلا أن تتصور أن أهل المدينة الأنصار جميعاً في صحيفته ، ثم مات شهيداً فقد فاز ورب البيت .
يقول عنه خباب بن الأرت : هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيبل الله نبتغي وجه الله ، فوجب أجرنا على الله ، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره في دنياه شيئاً .
سيدنا عمر مرة قدم له طعام طيب ، فبكى ، لماذا بكى ؟ تذكر أصحاب النبي الذين ماتوا قبل أن يفتح الله الدنيا على المسلمين ثم جاءتهم الدنيا بعد ذلك راغمة .
جاءوا بكنز كسرى ووضع الكنز على الأرض ، بحيث أن أحداً لو أمسك برمحه ، وأمسك رجل آخر برمحه في الطرف الثاني فالأول لا يرى الثاني .
فتحت عليهم الدنيا ، لكن صحابة كرام ماتوا قبل أن تفتح عليهم الدنيا هؤلاء لهم عند الله أجر مضاعف . فالإنسان يستسلم لله عز وجل ، هو الرحمن الرحيم ، الآية التي تؤثر بالنفس :
( سورة آل عمران : 158 ) .
( سورة الزخرف : 32 ) .
والإنسان دائماً يبحث عن رزقه ، ثم يبلغ درجة من الكفاية والحاجة ويبقى همه الجمع ، لكن الله تعالى يقول :
هذا سيدنا مصعب قتل يوم أحد ، ولم يجدوا له شيئاً ليكفن به إلا نمرة ، يعني رداء خشن ، فكنا إذا وضعناها على رأسه ، تعرّت رجلاه ، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه ، فقال عليه الصلاة والسلام : اجعلوها مما يلي رأسه ، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر ضعوا قليلاً من حشيش على رجليه وارفعوا الثوب إلى رأسه .
هذا سيدنا مصعب بن عمير الذي كان من أرفه ، ومن أنعم ومن أكثر فتيان قريش أناقةً ، ونعومةً ، ورخاءً ، وغنىً ، باع دنياه في سبيل الله عز وجل .
وإذا اختار الإنسان عملاً نظيفاً ، عملاً شريفاً ، متعباً و دخله قليل لكن شريف ، ما به شبهات،و ما به مداخلات ، وما به ما يثير القلق ، فإذا اختار عملاً شريفاً متعباً دخله قليل ، وعاش حياة مع الله وادعة ، مطمئنة ، فهذا وسام شرف له ، افرح بالدخل الحلال ، إن كان كثيرا فالحمد لله ، هذا من نعم الله عز وجل لكن إن كان قليلاً ، وهو حلال ، فهذا أفضل من كثيرٍ لا
يرضي الله عز وجل ، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام ، قال مرة لثعلبة : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره ، خير من كثير لا تؤدي شكره . وقف النبي عليه الصلاة والسلام عند مصعب بن عمير ، وعيناه تذرفان بالدموع ، وقال :
( سورة الأحزاب : 23 ) .
ومنذ مدة قرأت نعوة ضخمة مكتوب فيها :
فممكن لكل من أراد أن يضع في النعوة هذه الآية أن يفعل ، ولكن المهم العبرة ، وحسن الخاتمة .يمكنك أن تأخذ إشارة أرقى ماركة سيارة تضعها على طنبر ، لكن يبقى الطنبر طنبراً والسيارة سيارة ، فهذه الآية تلاها النبي الكريم عندما وقف على جثمان مصعب :
ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي كفن بها وقال : يا مصعب لقد رأيتك بمكة ، وما بها أرق حلة ، ولا أحسن لمة منك ، ثم ها أنت شَعِث الرأس في بردة ، عندئذ قال عليه الصلاة والسلام : إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة . نعم ، أنا أشهد ، وهناك صحابي لما أسلم ثم خاض مع رسول الله معركة والله نجاه ، ووزعت الغنائم ، قال ما هذا ؟ قالوا هذه غنيمة لك قال والله ما على هذا أسلمت !! أنا أسلمت على الذبح ، أنا أسلمت على أساس أن أقدم حياتي في سبيل الله ، وفي المعركة الثانية ، وجد مقتولاً ، فالنبي الكريم قال : أهو ؟ هو ؟ هو ، قالوا هو ، هو ، فبكى النبي عليه الصلاة والسلام وقال :
اللهم إني أشهد أن هذا قاتل في سبيلك .
أهذه شهادة قليلة ؟ قال : له إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة ، ما في الدنيا شيء يؤسف عليه ، فالدنيا تغر ، وتضر ، وتمر .